الإثنين 23 حزيران 2025

نهاية الوهم: لا وجود لعالم متعدد الأقطاب


مادالينا شيلانو- روما

لسنوات، غذّينا فكرة، وربما أملًا، بأن العالم يمرّ بمرحلة انتقالية نحو نظامٍ متعدد الأقطاب. كنا نعتقد – وأقولها هنا بضميرٍ ناقدٍ للذات – أن الإمبريالية الأمريكية في طور الأفول، منهكةٌ من أزماتها الداخلية وحروبها الفاشلة، في ظلّ صعود قوى جديدة مثل الصين، وروسيا، وإيران، وأفريقيا الناشئة.
احتفلنا بمجموعة "البريكس"، و"طريق الحرير الجديد"، و"منظمة شنغهاي"، و"الأوراسية"، متخيّلينها ركائزَ لعالمٍ أكثر عدلًا وتوازنًا.

غير أن أحداث السنوات الأخيرة – وليس فقط الأشهر الأخيرة – أجبرتنا على مواجهة واقع مختلف جذريًا. فسردية التعددية القطبية، كأفق حتمي، تتهاوى أمام إعادة تأكيدٍ وحشية للقوة الأمريكية وأذرعها الإقليمية، وعلى رأسها إسرائيل. وبدلًا من أن تُجسّد عودة ترامب إلى البيت الأبيض ذروة الانهيار الأمريكي، بدت كاستراتيجية لإعادة إطلاق المشروع الإمبراطوري، تحت شعار "أمريكا أولًا"، الذي يجد في الأزمات العالمية – من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، وصولًا إلى آسيا والمحيط الهادئ – فرصةً لإعادة تنظيم الهيمنة، وتثبيت التفوق العسكري.

هل مات الردع؟
في زمنٍ مضى، كانت هناك "خطوط حمراء". وكانت مفاهيم مثل "الدمار المتبادل المؤكد" أو "الردع النووي" تملك هيبة غامضة، وضمانًا لتوازن رعبٍ منح العالم استقرارًا نسبيًا.
أما اليوم، فنشهد هجماتٍ مباشرة – تقليدية وإلكترونية – على مواقع نووية روسية وإيرانية، دون أي ردٍ مماثل، ودون أن يلوح شبح "كارثة هرمجدون" في الأفق.
لقد أدركت واشنطن أنها قادرة على الضرب، والإذلال، وفرض الأجندات. وهي تمارس ذلك بمعزل عن القانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة، وحتى معاهدة حظر الانتشار النووي. إنها تفعل ذلك ببساطة لأنها تستطيع، ولأن أحدًا لا يوقفها.

"العالم متعدد الأقطاب"... بين علامتي اقتباس
الصين وروسيا. عملاقان اقتصاديًا وجيوسياسيًا، بلا شك. لكنهما عاجزان – أو غير راغبين – في الرد بفعالية على العدوان الأمريكي الأحادي. إيران، الحليفة الرسمية لكلٍّ منهما، تُركت وحيدة تحت نيران الصواريخ الغربية.
موسكو وبكين لم تفعلا شيئًا ملموسًا لردع الهجوم أو إيقافه. لم يتجاوز دعمهما حدود التصريحات الرمزية، المتأخرة، والباردة. وتبخّر "التحالف الاستراتيجي" المزعوم عندما أصبحت الحاجة إليه فعلية.

وماذا عن بقية العالم؟
الدول العربية، العالقة بين الخوف والتواطؤ، تُقدّم مجالها الجوي وخدماتها اللوجستية للعمليات الأمريكية والإسرائيلية، بينما تُبدي أمام الكاميرات "قلقها" و"تضامنها" مع إيران.
أردوغان يتحيّن الفرصة لاقتطاع نفوذ في المناطق الإيرانية الناطقة بالتركية.
أما باكستان، التي لوّحت سابقًا بردٍّ دفاعًا عن "آيات الله"، فهي اليوم تطرح اسم ترامب لجائزة نوبل للسلام.

إن كانت التعددية القطبية موجودة فعلًا، فهي عاجزة تمامًا، وربما بلا جدوى حقيقية في ميزان القوة العالمي الحالي

الهزيمة في الشرق الأوسط وظلالها على أوراسيا
هزيمة محور المقاومة في الشرق الأوسط – في سوريا، ولبنان، والعراق، والآن إيران – ليست مجرد خسارة إقليمية، بل فصلٌ من استراتيجية كونية.
فبعد تعطيل – ولو مؤقتًا – فرضية استمرارية جبهة مقاومة إقليمية شيعية أو معادية للإمبريالية، بات يمكن نقل آلة الحرب الغربية إلى الجبهة الشرقية.

أوكرانيا، التي باتت فخًا مرهقًا لروسيا، قد تصبح ساحة لهجوم جديد.
وبعد ثلاث سنوات ونصف من الحرب، ومع الانسحاب الروسي الجزئي من سوريا والعجز عن نجدة إيران، تبدو موسكو في موقع هشّ، محاصَرة ومعزولة.

أما "السلام" الذي يلوح، فليس سوى سلامٍ عقابي تفرضه واشنطن وبروكسل، لا سلامًا عادلاً.

ثم تأتي بكين. أمّ المعارك المقبلة.
فالولايات المتحدة لا تنوي انتظار نهاية "اللعبة الاقتصادية"، بل تسعى لقطع الطريق على الصين قبل أن تكتمل قوتها.
من الاستفزازات في تايوان، إلى عسكرة المحيطين الهندي والهادئ، إلى الحروب الهجينة… كل الإشارات تؤكد أن التصعيد قادم.

ما الذي تبقّى؟
تبقى الحقيقة المُرّة: إن أوهام تحرّر العالم من القطب الواحد لم تكن إلا تمنيات، لا تشخيصًا موضوعيًا لمسار التاريخ.

لكي تولد التعددية القطبية فعليًا، لا تكفي الاقتصادات الناشئة.
نحن بحاجة إلى إرادة سياسية مستقلة، وشجاعة، وثورة فكرية، وهوية جماعية قادرة على الفعل والتأثير.
وكل ذلك – حتى الآن – غائب.

لكن القصة لم تنتهِ بعد.
فشراسة الإمبراطورية ليست برهان قوة، بل دليل خوف. ورد الفعل العالمي قد ينضج، أولًا على مستوى الشعوب، ثم الدول.
لكن لا بدّ من الاعتراف بالحقيقة:
لبناء عالم مختلف، علينا أولًا تفكيك وهم العالم القائم.