بقلم عصام الحلبي
في تاريخ الشعوب المناضلة، تظهر كيانات تمثيلية تتجاوز في لحظة تاريخية حدود التنظيم والإدارة، لتصبح مرآةً لهوية وطنية ومشروع تحرري جامع. هكذا كانت منظمة التحرير الفلسطينية، ومنذ تأسيسها عام 1964 ثم صعودها بقيادة حركة "فتح"، الإطار الجامع والممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ليس فقط بقرار عربي ودولي، بل أولاً وأساسًا بفعل التضحيات الفلسطينية المباشرة.
شرعية امزدوجة نضالية ودولية
شرعية المنظمة تقوم على أساس مزدوج:
أولاً، شرعية شعبية ونضالية متأتية من كونها رافعة الكفاح الفلسطيني بكل أشكاله، وقدمت من خلال فصائلها، وعلى رأسها "فتح"، قوافل الشهداء والأسرى والجرحى.
وثانيًا، شرعية قانونية-دولية، حيث حازت عبر القرار الأممي 3236 (1974) على الاعتراف بـ"منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني"، وفتح لها الباب للمشاركة في الأمم المتحدة بصفة مراقب، وهو اعتراف سياسي واضح بكيانية الشعب الفلسطيني وبحقه في تقرير المصير.
مشروع وطني في مواجهة التجزئة
جوهر ما تمثله منظمة التحرير هو بلورة مشروع وطني فلسطيني جامع، لا يختزل الفلسطيني في موقعه الجغرافي، ولا يقزّمه إلى حالة إنسانية إغاثية، بل يراه شعبًا واحدًا صاحب حق في أرضه وتاريخه وهويته السياسية.
وقد جاءت مكونات وأهداف هذا المشروع الوطني متماسكة:
إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس،
عودة اللاجئين وفق القرار 194،
إطلاق سراح الأسرى،
وتحقيق الكرامة الوطنية والاستقلال السياسي.
هذا المشروع، بطبيعته، يتعارض مع الرؤية الإسرائيلية – الأمريكية القائمة على تصفية القضية عبر أدوات "السلام الاقتصادي"، أو اختزالها بقضايا المعونات، أو الدفع نحو قيادات بديلة لا تمتلك قاعدة شرعية.
البراغماتية النضالية، تكيّف لا تنازل
إن النضال الذي قادته منظمة التحرير لم يكن جامدًا أو مؤدلجًا، بل تميّز ببراغماتية وطنية مرنة:
فقد استخدمت الكفاح المسلح حين فرضه الواقع،
وانتقلت إلى المسار السياسي والدبلوماسي حين برزت ممكنات التدويل،
دون أن تتنازل عن جوهر الحقوق، ودون أن تسقط أياً من أدوات النضال من قاموسها.
هذا التكيّف الواعي جعل من المنظمة كيانًاوطنيا قادرًا على الاستمرارية رغم التحديات والانشقاقات والحصار المالي والسياسي.
مواجهة الاستهداف من التصفية إلى التجاوز
ليس من قبيل الصدفة أن تكون المنظمة وحركة "فتح" الهدف الأول للاستهداف الإسرائيلي والأمريكي وبعض القوى الإقليمية، فالمطلوب هو إسقاط المرجعية التي تملك شرعية التمثيل، واستبدالها بأطر بديلة تابعة، يمكن إدارتها من الخارج.
وهنا تظهر خطورة المشاريع البديلة التي تسعى لتفريغ القضية من مضمونها السياسي، وتحويلها إلى أزمة "لاجئين" أو "سكان محتاجين"، وبالتالي تجويف المضمون الوطني وتسهيل عملية التصفية.
لكن حتى الآن، فشلت هذه المشاريع، بفضل صلابة الشعب الفلسطيني، وتمسكه بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيدا، وبفضل استمرار النضال السياسي والدبلوماسي في المحافل الدولية.
دوليا، قرارات تخدم، وموازين قوى تعرقل
رغم الانحياز الأمريكي الفجّ، استطاع الفلسطينيون – عبر منظمة التحرير – انتزاع اعترافات قانونية دولية نادرة في تاريخ حركات التحرر، من أبرزها:
القرار 194 (1948): حجر الزاوية في حق العودة، حيث ينص على "عودة اللاجئين إلى ديارهم".
القرار 242 (1967): أساس حل الدولتين، يطالب بانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة.
القرار 3236 (1974): اعتراف بالمنظمة ممثلاً شرعياً، وتأكيد على حق تقرير المصير.
لكن هذه القرارات بقيت، إلى حدّ كبير، رهائن لموازين قوى ظالمة، ما يؤكد أن الرهان الأساسي يبقى على القوة الشعبية الفلسطينية، وعلى صمود المؤسسة الوطنية الجامعة.
ما بين الشرعية الشعبية، والمكانة الدولية، والبنية السياسية الجامعة، والنضال متعدد الأدوات، تبدو منظمة التحرير الفلسطينية العمود الفقري للقضية الفلسطينية، وأي محاولة لتجاوزها ليست سوى محاولة لتصفية تلك القضية.
لذلك، فإن أولوية المرحلة هي الالتفاف حول منظمة التحرير وإعادة بناء مؤسساتها بشكل ديمقراطي وشامل، يضمن التمثيل لكل أطياف الشعب الفلسطيني، ويعيد تفعيل وظائفها السياسية والكفاحية والدبلوماسية، لتبقى صوت الفلسطينيين ودرعهم في وجه محاولات الطمس والتصفية.