عصام الحلبي- بيروت
19-6-2025
في سياق التصعيد المتواصل بين "إسرائيل" وإيران، برز مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، كمصدر رئيسي للسرديات الغربية حول ما يُوصف بـ"التهديد النووي الإيراني".
(من المهم التوضيح هنا أننا لا نتهمه مباشرة، ولكن سير الأحداث والتصريحات الصادرة عنه هو ما سيكون الفيصل في هذا التحقيق).
تصريحات غروسي، التي تباينت بشكل لافت بين التحذير من تخصيب اليورانيوم عالي المستوى، ثم النفي الصريح لأي برنامج تسليحي نشط، أعادت إلى الأذهان المشهد العراقي عشية الغزو الأميركي عام 2003، حين لعبت المؤسسات الدولية دورًا إما متواطئًا أو مغفلاً في تسويق مبررات الحرب.
التسلسل الزمني للأحداث والتصريحات
أولًا: التحذير ما قبل العدوان – 9 يونيو 2025
أمام مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، صرّح غروسي بأن الوكالة "عثرت على جسيمات يورانيوم صناعي" في ثلاثة مواقع غير معلنة: فارامين، ماريفان، تورقوز آباد. وأضاف أن تلك المواقع تشير إلى "نشاط نووي سابق لم تُعلن عنه إيران"، وأن المواد المكتشفة "يمكن أن تدفع للاعتقاد بوجود أهداف وغايات غير سلمية".
وسائل إعلام إسرائيلية وأميركية سارعت إلى تضخيم هذه التصريحات، واعتبرتها دليلًا قاطعًا على نشاط نووي مريب، يُبرّر التحرك العسكري الوقائي.
ثانيًا: التصعيد التقني والإعلامي – 10 إلى 12 يونيو 2025
في هذه الفترة، صرّح غروسي أن إيران خصّبت اليورانيوم بنسبة 60%، وهي نسبة "قريبة من تلك المطلوبة لصنع قنبلة نووية". وذكر أن إيران تمتلك أكثر من 400 كجم من اليورانيوم عالي التخصيب.
في 12 يونيو، تبنّى مجلس حكام الوكالة قرارًا رسميًا يعتبر إيران "في خرق لالتزاماتها الدولية"، وهو أول قرار من هذا النوع منذ 20 عامًا، بسبب عدم تقديم طهران تفسيرات مقنعة حول المواقع والمواد المكتشفة.
هذا التصعيد المؤسسي استُخدم كغطاء سياسي لتبرير "الضربات الدفاعية" الإسرائيلية.
ثالثًا: الضربة الإسرائيلية وتحوّل الخطاب – 13 يونيو 2025 وما بعده
مع بدء "إسرائيل" عدوانًا جويًا واسعًا استهدف منشآت نووية إيرانية، أعلن غروسي أمام مجلس الأمن أنه "لا يوجد دليل على أن إيران تسعى حاليًا لتصنيع سلاح نووي"، رغم استمراره في التأكيد على تخصيب مرتفع.
تصريحاته المتناقضة أثارت انتقادات، واعتُبرت تراجعًا لافتًا عن نبرة التحذير الأولى، ما عزز الشكوك حول توظيف تقارير الوكالة لتبرير الحرب، ثم التخفيف من وقعها بعد تنفيذ الضربة.
رابعًا: ذاكرة الحرب – العراق 2003 يعود
السيناريو يعيد للأذهان تجربة العراق عام 2003، حين تم استخدام تقارير الوكالة الدولية لتبرير غزو العراق بزعم امتلاك أسلحة دمار شامل، تبيّن لاحقًا أنها غير موجودة.
كما آنذاك، اليوم أيضًا نلحظ النمط ذاته: "تحذير – تهويل – ضرب – نفي أو تخفيف"، مع دور محوري للمؤسسات الدولية التي يُفترض أن تكون محايدة.
خامسًا: الموقف الإيراني والتشكيك
إيران رفضت بشدة ما ورد في تقارير الوكالة، معتبرة أن الأخيرة "استندت إلى معلومات استخباراتية إسرائيلية غير موثوقة". وأوضح مندوب إيران أن المواقع التي تحدّثت عنها الوكالة "أُغلقت منذ أكثر من عقد"، والمخلفات لا تعني نشاطًا حاليًا.
كما هاجم البرلمان الإيراني "ازدواجية المعايير"، في ظل التغاضي الكامل عن الترسانة النووية الإسرائيلية غير الخاضعة لأي رقابة دولية.
الاستنتاج: غروسي... بين المهام الرقابية والدور السياسي
يتبيّن من تسلسل التصريحات والأحداث أن تصريحات غروسي جاءت في توقيت بالغ الحساسية، وساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في تهيئة المناخ الدولي لتبرير العدوان على إيران.
التناقض بين تحذيراته السابقة وتصريحاته اللاحقة يعزز الفرضية بأن الوكالة، رغم دورها المحايد نظريًا، باتت فعليًا أداة ضمن توازنات القوى العالمية.
كما حدث في العراق، فإن غياب الأدلة القطعية لم يمنع العدوان، بل إن المؤسسات الدولية، بصمتها أو بتناقضها، لعبت دور "الشرعية التكنوقراطية" لتسويغ الحرب.
توصيات لضمان استقلالية الوكالة الدولية للطاقة الذرية
• إجراء مراجعة شاملة لاستقلالية الوكالة عن الضغوط السياسية والدولية.
• إقرار آليات رقابة دقيقة على مضمون التقارير، وعدم إعلانها قبل التدقيق والتحقق العلمي والسياسي من محتواها.
• دعوة وسائل الإعلام العالمية إلى توخّي الحذر من الانجرار وراء تسريبات غير مؤكدة وتضخيم المعلومات.
• محاسبة الدول التي تستخدم المؤسسات الدولية كأداة لتبرير حروبها أو تدخلاتها العسكرية.
ورغم أن هذه التوصيات تبدو ضرورية، إلا أنها تظل نظرية في ظل الهيمنة الأميركية على مؤسسات القرار الدولي، ومنها الوكالة الدولية للطاقة الذرية.