الثلاثاء 15 تموز 2025

"ما بحكّ جلدك إلا ظفرك… أنت" لكل طبقة اجتماعية أو فئة أولوياتها


بقلم: عصام الحلبي

ما بين ألفي إلى ألفين وخمسمئة فلسطيني من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة، الذين دخلوا لبنان منذ العام 1968 وما تلاه من سنوات النكبة المستمرة، لا يزالون يعيشون حياة لا تشبه الحياة. هذه الشريحة التي لا تُدرَج ضمن لاجئي لبنان رسميًا، ولا تحظى بأي صفة قانونية في سجلات وكالة "الأونروا"، تبقى عالقة في برزخ اللامكان واللاهوية، وكأنها طيفٌ منسيّ على هامش النكبة، لا يُرَى ولا يُعترف بوجوده.

هؤلاء الذين هجّرتهم النكبة مرتين — مرة أولى بفعل الاحتلال، ومرة ثانية تحت وطأة التهجير السياسي أو الأمني أو المعيشي — لا يزالون حتى اليوم محرومين من أبسط مقومات الهوية القانونية. لا بطاقة تعريف، لا هوية شخصية، لا جواز سفر، لا حقوق مدنية، لا حقوق إنسانية، ولا كرامة تحفظ لهم إنسانيتهم. وكأنهم خُلقوا ليُنسَوا، أو ليكونوا مرآة تتجاهلها العيون، لأنها تعكس وجهًا لا يريد أحد رؤيته.

في الزوايا المهملة لمخيمات الشتات، تتكدس عائلاتهم في مساكن أقرب إلى صناديق مكتظة، بلا نوافذ، بلا تهوية، بلا خصوصية. تتناثر فيها تفاصيل العيش بمرارة، ويتسلل الخذلان إلى الأرواح مع كل شروق شمس. أطفالهم يدخلون مدارس لا تعترف بهم إلا رقمًا في الصف، ينهون مراحلهم الدراسية ليصطدموا بجدار الواقع: لا عمل، لا تصريح، لا جامعة تقبلهم، ولا دولة تعترف بهم كمقيمين ذوي حق.

حتى وكالة "الأونروا"، التي وُلدت من رحم اللجوء الفلسطيني، تقف عاجزة أمامهم، لأن تصنيفهم القانوني مبهم. فلا هي تصرّح أنهم لاجئون، ولا تلتزم بتقديم خدماتها إليهم، تاركة إياهم في منطقة رمادية: بلا طبابة، بلا تعليم، بلا إغاثة. كأنهم طارئون في وطن الطارئين، وضيوف على الهامش الذي لم يعد يتسع لأحد.

على مدى عقود، رفعوا مئات المذكرات، وطرقوا أبواب الفصائل والمؤسسات، خاطبوا الأمن العام اللبناني، واستنجدوا بالسفارات والقنصليات، والتقوا مسؤولين فلسطينيين ولبنانيين على حد سواء، لكن قضيتهم بقيت ضائعة بين الملفات، تُرمى من درج إلى آخر، دون أن تُفتح على مصراعيها. لا تنتمي معاناتهم إلى أي خانة معروفة، ولا يجدون من يمثلهم فعليًا. فهم ليسوا من لاجئي لبنان، ولا من مواطني غزة أو الضفة رغم انتمائهم إليها، ولا هم نازحون بالمعنى الكلاسيكي، ولا عمال أجانب، بل فئة بلا تصنيف.

المرأة الفلسطينية منهم، تبكي بصمت حين لا تجد مدرسة تستقبل طفلها دون وثائق. ويخنقها الخوف حين يمرض صغيرها، فلا تملك ورقة تعرّف به أمام الطبيب أو المستشفى. والشاب الفلسطيني، المولود في لبنان، والذي لا يعرف سواه وطنًا، يجد نفسه ممنوعًا من العمل في معظم المهن، محرومًا من الحق في التنقل، أو حتى في الاستقرار ضمن مسكن قانوني.

إنهم ضحايا أولًا لتقصير القيادة الفلسطينية، التي تعاملت معهم منذ البداية كـ "زوار مؤقتين"، ولم تتبنّ قضيتهم بجدية أو تدافع عنهم أمام الجهات الدولية واللبنانية. وضحايا أيضًا لسياسات الدولة اللبنانية، التي لم تضع لهم أي إطار قانوني يحفظ وجودهم، فتركتهم عرضة للتهديد الدائم بالترحيل أو التوقيف أو الحرمان.

لكنهم أيضًا ضحايا مجتمع دولي وعربي يتعامل مع الفلسطيني كعبء يجب التخلص منه، لا كإنسان له حقوق. تقارير تصدر، وأرقام تُعدّ، واجتماعات تُعقد، لكن لا أحد يسأل: ماذا يعني أن تعيش من دون اسم؟ من دون وطن؟ من دون أي ورقة تقول إنك هنا؟

ورغم كل ذلك، لا يزالون يعلّمون أبناءهم أن الحلم لا يموت. يُنجبون في الخفاء، يحبّون في الظل، ويبنون أحلامهم على حافة اليأس، مؤمنين بأن القضية لا تزال أكبر من التفاصيل، وأن الإنسان لا يُقاس بأوراقه بل بانتمائه. هم لا يطلبون جنسية، بل اعترافًا بوجودهم، وحماية لهويتهم القانونية، فقط ليستطيعوا العيش بكرامة.

"ما بحكّ جلدك إلا ظفرك"، يقول المثل. لكن ظفر هذه الفئة قد تآكل من كثرة الطرق على جدران الصمت، ومن طول الوقوف على أبواب لا تفتح. لم يعد يكفي التعاطف، ولا يكفي الوعد بـ"حل لاحق". المطلوب الآن تحرك سياسي وحقوقي وإنساني سريع، لأن هذه المأساة لم تعد قابلة للتأجيل.

إن إنقاذ هؤلاء الفلسطينيين ليس رفاهًية ولا مجاملة، بل هو واجب أخلاقي ووطني. لأن القضية التي لا تحمي أبناءها، تتحوّل إلى شعار فارغ. تمامًا كما يتحوّل اللاجئ بلا أوراق إلى طيف يمشي بيننا... لا يُرى، ولا يُحتسب، ولا يُنصف.