كتب عصام الحلبي
لا يأتي الخبر الذي نشرته وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" عن لقاء جمع الممثل الخاص لرئيس دولة فلسطين، ياسر عباس، والسفير الفلسطيني لدى لبنان محمد الأسعد، بالسفير الروسي في بيروت ألكسندر روداكوف، كخبر دبلوماسي عابر. طبيعة الحضور، ومحاور الحوار التي كُشف عنها، توحي بأن اللقاء ينتمي إلى الفئة التي تُقال فيها كلمات قليلة… بينما تبحث فيها ملفات مهمة وفق حسابات كثيرة.
وفق وكالة "وفا"، وضع الممثل الخاص للرئيس عباس السفيرَ الروسي في صورة «آخر المستجدات في الأراضي الفلسطينية المحتلة» وما يتعرّض له الشعب الفلسطيني من «عدوان متواصل» في غزة والضفة والقدس. كما نقل الجهود التي يبذلها الرئيس محمود عباس لوقف العدوان وحشد التأييد الدولي والاعتراف بدولة فلسطين. في ظاهر الأمر، هذا حديث أو كلام دبلوماسي اعتيادي. لكن حضوره بهذه الصيغة يوحي بأن القيادة الفلسطينية تُصرّ على أن تكون صلتها بالمجتمع الدولي — وبالقوى التي لا تزال تؤثر في الشرق الأوسط — مباشرة وواضحة وبدون أي وسطاء. إنها إعادة تثبيت للشرعية الفلسطينية في لحظة يتزاحم فيها اللاعبون الدوليون والإقليميون على طرح رؤاهم حول مستقبل غزة ما بعد الحرب.
من جهته، شدّد السفير محمد الأسعد — كما ورد في "وفا" — على «العلاقة التاريخية الفلسطينية الروسية» وعلى «مواقف روسيا الثابتة الداعمة للشعب الفلسطيني»، وهي عبارة مألوفة في الخطاب الدبلوماسي، لكنها هنا تحمل معنى إضافياً. فروسيا، التي تحاول إعادة ترتيب تموضعها الإقليمي، تدرك تماماً أن القضية الفلسطينية تمثل بوابة مركزية لأي طرف يريد الإمساك بخيط من خيوط التأثير في الشرق الأوسط. وفلسطين، من جانبها، تدرك أن موسكو لاعب لا يزال يحتفظ بقدرة على تعطيل أو دعم أي مسار سياسي دولي، خاصة في ظل الاستقطاب الدولي المتصاعد.
الشق المتعلق بلبنان يستحق توقفاً إضافياً، فقد أكدت الأطراف — الفلسطينية والروسية — الموقف الثابت بشأن «تعزيز التنسيق والتواصل بين دولة فلسطين ولبنان بما يضمن احترام سيادة الدولة اللبنانية واستقرارها، وبسط سلطتها على كل أراضيها بما فيها المخيمات الفلسطينية». هذه ليست مجرد جملة بروتوكولية
، إنها رسالة واضحة بأن المخيمات الفلسطينية لن تكون ساحة مفتوحة لأي توترات أو حسابات إقليمية، وأن القيادة الفلسطينية حريصة على تثبيت قواعد الاستقرار في لبنان. فوجود روسيا في هذا السياق ليس تفصيلاً، فموسكو تمتلك نفوذاً في ملفات تتصل بلبنان مباشرة، بدءاً من سوريا وصولاً إلى التوازنات الإقليمية الأوسع.
أما السفير الروسي روداكوف، فقد أعاد — وفق "وفا" — التأكيد على أن دعم بلاده للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة «ركيزة أساسية في سياسة روسيا»، مضيفاً تهنئة لمناسبة اليوم الوطني الفلسطيني، ومشدداً على التضامن مع «نضال الشعب الفلسطيني لإنجاز مشروعه الوطني». هذه اللغة ليست جديدة في الموقف الروسي، لكنها تأتي اليوم في توقيت بالغ الحساسية، ما يجعلها تحمل وزناً سياسياً مضاعفاً، فروسيا تعلن — عبر هذا اللقاء — أنها لن تتراجع عن موقفها من فيام دولة فلسطينية مستقلة، وأن دعم السلطة الفلسطينية جزء من استراتيجيتها الشرق أوسطية، لا مجرد مجاملة دبلوماسية.
وعند جمع كل هذه العناصر — كما وردت في الخبر الرسمي — تتضح الصورة بشكل أوسع: اللقاء في بيروت لم يكن مجرد مناسبة لتبادل المعلومات، بل محطة ضمن سلسلة تحركات هادئة تُعيد تشكيل شبكة التحالفات في المنطقة. فلسطين تسعى لتثبيت مكانتها كمرجعية شرعية لا يمكن تجاوزها في أي ترتيبات مقبلة. روسيا تبحث عن مداخل جديدة لترسيخ نفوذها في الشرق الأوسط، والفضاء الفلسطيني واحد من أهمها. ولبنان، المثقل بالأزمات، يحاول أن يبقي المخيمات خارج التجاذبات، مستفيداً من إجماع فلسطيني–روسي على ضرورة صون استقراره.
في المحصلة، قد يبدو لقاء بيروت بروتوكولياً في الشكل، لكنه في الجوهر يعكس معادلات دقيقة تتجاوز حدود السفارة الفلسطينية. فمنذ أن دخلت الحرب على غزة مرحلة مفصلية، باتت كل حركة دبلوماسية — مهما صغرت — قطعة من لوحة أكبر تُرسم بهدوء. لقاء الفلسطينيين والروس في بيروت هي أحد تلك القطع: أن كان صغير في حجمه، او كبير في دلالاته، وجزء من عملية أوسع تُعاد فيها صياغة العلاقات والاصطفافات في الشرق الأوسط… دون ضجيج، لكن بعمق وتأثير واضحين.