الثلاثاء 1 تموز 2025

"قضية الجزائريين، قضية كل الأحرار": الاستعمار والذاكرة ومأزق الديمقراطية



تحقيق: ماجدالينا شيلانو – روما – النهار الإخبارية

 "ما نطالب به ليس الانتقام، بل الحقيقة. ما نبحث عنه ليس فقط الاعتراف، بل العدالة."
— من شهادة أحد الناجين من أحداث 17 أكتوبر 1961.

بين ذاكرة الدم، وأرشيف النسيان، وبين صراع الاستقلال ومآسي ما بعده، تتقاطع قصة الجزائر مع المساءلة الأخلاقية للتاريخ الاستعماري الفرنسي. فمجزرة 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961 ليست مجرد حادثة عنف بوليسي في شوارع باريس، بل لحظة مفصلية تكشف عن عمق الاستمرارية بين الاستعمار، وإنهاء الاستعمار، وما بعده. تحقيقنا هذا يعيد فتح جراحًا لم تندمل، ويطرح سؤالًا يتجاوز الجزائر: ما الذي تبقى من الحرية حين تُنتهك باسمها القوانين؟

مجزرة باريس: حين سقطت الديمقراطية في نهر السين

كانت ليلة 17 أكتوبر 1961 صادمة، ليس فقط لأن الشرطة الفرنسية قمعت مظاهرة سلمية نظمها جزائريون ضد حظر تجول عنصري، بل لأن العنف الذي مورس لم يختلف كثيرًا عن ذلك الذي شهده الجزائريون في مدنهم المحتلة.
المتظاهرون — نحو 30 ألفًا — خرجوا بدعوة من جبهة التحرير الوطني في قلب باريس، مطالبين بحقهم في الوجود والكرامة. فكان الرد رسميًا ووحشيًا: ضرب، اعتقالات، وإلقاء العشرات في نهر السين.
التقديرات الأكثر موثوقية تشير إلى مقتل ما لا يقل عن 300 شخص، وفقًا لدراسة جيمس هاوس ونيل ماكماستر (2006).

لم تكن المذبحة حادثًا معزولًا، بل جاءت تتويجًا لعقود من الحكم الاستعماري الفرنسي الذي لم يتورع عن نقل أدوات قمعه من الجزائر إلى قلب الجمهورية. كتب مثقفون فرنسيون حينها في بيان عام 1960:
"قضية الجزائريين هي قضية كل الأحرار."
كان هذا البيان بمثابة إعلان تمرد أخلاقي على الصمت، وتحول نادر في المواقف داخل فرنسا ذاتها.

من سطيف إلى باريس: خط زمني للدم

لم تبدأ المأساة في باريس، بل يمكن تتبع جذورها إلى مجزرة سطيف في 8 مايو 1945، حين خرج جزائريون للاحتفال بنهاية الحرب العالمية الثانية، رافعين علم بلادهم، ومطالبين بالحرية التي ساعدوا فرنسا على استعادتها من النازية.
فجاءهم الرد بالنار: آلاف القتلى في سطيف، قالمة، وخراطة، في حملة قمع شاملة شاركت فيها قوات فرنسية من البر والجو.

هذا الحدث — الذي تجاهله التأريخ الأوروبي طويلًا — مثّل البداية الرمزية لنهاية مشروع "الاستعمار التنويري"، وكشف للمرة الأولى حدود الديمقراطية الفرنسية حين يتعلق الأمر بغير الفرنسيين.

سارتر وفانون: ضمير المستعمَرين والمستعمِرين

انقسم الرأي العام الفرنسي بين من حاول تبرير القمع باسم الجمهورية، ومن تصدى له فكريًا وأخلاقيًا.
ألبير كامو رفض العنف، لكنه عجز عن الانحياز الصريح للمستعمَرين. بينما ذهب جان بول سارتر أبعد من ذلك، مؤكدًا أن الاستعمار "شكلٌ من أشكال العبودية الحديثة"، ومشددًا على حق الشعوب في المقاومة المسلحة، لا كخيار، بل كواجب.

في مقدمة كتاب فرانز فانون "معذبو الأرض"، كتب سارتر:
"إذا رفضتم العنف، فقد لا يبقى لكم سوى أن تنحنوا."
كما شارك في توقيع بيان الـ 121 عام 1960، الذي أعلن دعم الرافضين للخدمة في حرب الجزائر، وندد باستخدام التعذيب كسياسة رسمية.

الاستقلال.. لكن بأي ثمن؟

جاء استقلال الجزائر عام 1962، فطُويت صفحة الاستعمار، لكن لم تبدأ صفحة الحرية.
تحت حكم هواري بومدين، تمحور مشروع الدولة حول السلطة لا المشاركة، واحتُكرت الوطنية باسم النظام.
الانفجار الأعنف جاء عام 1991، حين ألغى الجيش نتائج الانتخابات التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ما فجّر حربًا أهلية دامية أودت بحياة نحو 200 ألف شخص.
مرةً أخرى، اختنقت مطالب التغيير تحت سطوة الأمن، واستُخدمت مفردات "الوطنية" لقمع الخصوم.

الذاكرة مسؤولية سياسية: المثقفون مجددًا في قلب المعركة

لا يمكن فصل السياسة عن الذاكرة، كما لا يمكن للذاكرة أن تبقى أسيرة الوثائق الرسمية أو الطقوس البروتوكولية.
الذاكرة الحية اليوم هي فعل مقاومة ضد التحريف، ضد محو الماضي، وضد نفاق الأنظمة التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان وهي تمارس النسيان الانتقائي.

تقول الباحثة الفرنسية دومينيك بيدوسا في كتابها الأخير (قضية الجزائريين، قضية كل الأحرار)، إن الاعتراف بمجزرة 17 أكتوبر ليس مجرد تصفية حساب مع الماضي، بل إعادة تعريف للمواطنة الديمقراطية في عصر ما بعد الكولونيالية.

 الحقيقة ليست ترفًا أخلاقيًا

في زمن تتزايد فيه النزعات اليمينية ومعاداة المهاجرين، يغدو التذكير بجرائم الاستعمار واجبًا سياسيًا.
أن نقول الحقيقة اليوم عن الجزائر، عن سطيف، وعن باريس 1961، يعني أن نرفض التبرير، وأن نعيد ربط الحرية بالعدالة، لا بالاستثناء.

 "حين يسقط أحدهم في نهر السين، لا يغرق وحده؛ بل تغرق معه أوهام جمهورية لم تتسع للحرية."

مراجع التحقيق الأساسية:

House, J. & MacMaster, N. (2006). Paris 1961: Algerians, State Terror, and Memory. Oxford University Press.

Fanon, F. (1961). Les Damnés de la Terre. Maspero Editions.

Sartre, J.-P. (1945). Les Temps Modernes.

Russell Tribunal (1967). Stockholm Sessions.

Vidal-Naquet, P. (1958). L’Affaire Audin.

Camus, A. (1939). Lettre à une Militante Algérienne.

Bedossa, D. (2023). La Cause des Algériens, Cause de Tous les Hommes Libres.