الأحد 15 حزيران 2025

في حضرة العدالة الغائبة: يوم انسحبتُ دفاعًا عن القانون وكرامة زميلتي


✍ بقلم: الأستاذ أمير حزامي

في صباح 14 جوان، بعد ليلة طويلة قضيتها في إعداد أسباب انسحابي من ملف زميلتي الأستاذة عبير موسي، التي تتعرض لمظلمة قضائية لا تخطئها العين، استيقظتُ باكرًا رغم نوم متقطع أثقلني فكريًا ونفسيًا. أخذت جرعتي من القناعة التي تبلورت داخلي بالأمس، ويمّمت وجهي نحو المحكمة الابتدائية بتونس، مستحضرًا كل ما يربطني بالقانون، لا بالمحاباة أو الحسابات.

دخلتُ القاعة، وكانت الجلسة لم تُفتتح بعد. طال الانتظار، ولم تُجلب الزميلة، رغم خطورة حالتها الصحية. عندما نودي على أول ملف وثانٍ، تقدمت بملاحظة إلى المحكمة: "المتهمة هي زميلتنا، وهي تمرّ بوضعية صحية حرجة للغاية، نرجو فور حضورها أن تؤمروا بإصعادها مباشرة إلى القاعة احترامًا لوضعها الإنساني، لا لشيء آخر."
وبعد قليل، حضرت الأستاذة عبير موسي، منهكة القوى، منهارة الملامح، في حالة يُرثى لها. ما صدمنا أكثر أنها نُقلت من سجن بلي إلى المحكمة مشيًا، لا بالسيارة، في محاولة لإرهاقها معنويًا وجسديًا. طلبتُ من المحكمة معاينة حالتها، وبعد أخذٍ ورد، تم تدوين الملاحظة بمحضر الجلسة.

حينها طلب مني رئيس الدائرة أن أتدخل، فأعلنت انسحابي من نيابة الزميلة، وطلبت أن أُمنح الحق في تسبيب هذا القرار أمام الهيئة. فُسح لي المجال، فكان أول ما ذكرته أن احتجاز الزميلة منذ 26 ماي يتم دون سند قانوني واضح، وهو خرق جسيم لكل أعراف العدالة. طالبت المحكمة بتوضيح الوضعية القانونية للزميلة، فقوبلنا
بصمت مريب، ثم نطق رئيس الدائرة: "الزميلة موقوفة فقط." هكذا، دون موجب، دون سند، دون قانون!

ثم انتقلت للسبب الثاني: إحالة الزميلة بموجب الفصل 24 من المرسوم 54، في غياب محكمة دستورية، يمنعنا حتى من ممارسة حق الدفع بعدم الدستورية، مما يشكل خرقًا صارخًا لمبدأ التقاضي على درجتين وللحق في المحاكمة العادلة.
أما السبب الثالث، فهو ما يخص تركيبة الدائرة القضائية. لا نعلم إن كانت مكتملة النصاب كما يقتضيه الفصل 221 من مجلة الإجراءات الجزائية، خاصة في ظل غياب المجلس الأعلى للقضاء، وصدور مذكرات عمل متضاربة خلال السنوات الأخيرة، ما يجعل من شرعية هذه الهيئة محل شك كبير.

حين أنهيتُ تسبيبي، التفت رئيس الجلسة إلى النيابة العمومية، التي طلبت مواصلة المحاكمة، ثم قررت المحكمة حجز القضية للمفاوضة والتصريح بالحكم. لحظتها، ضحكت الزميلة عبير، ضحكة ممزوجة بالذهول والمرارة، من مشهد محاكمة تُقام بلا دفاع، بلا شرعية، بلا عدالة.

قبل أن تُقتاد الزميلة من القاعة، توجهت إليّ بتحية عسكرية، فيها من الشكر ما فاق الكلمات. كانت تلك اللحظة من أغرب ما عشته داخل قاعة محكمة: زميلة تُحاكم، وأنا أنسحب دفاعًا عنها، لا هروبًا من المسؤولية، بل تمسكًا بها حتى النهاية.

لقد عشت هذا اليوم بكل جوارحي، لم يكن مجرّد جلسة، بل كان محطة أخلاقية فاصلة. لم يكن قراري سياسيًا، ولا شعبويًا، بل قانونيًا بامتياز. بوصلتي كانت، وستظل، تطبيق القانون والدفاع عن كرامة الزميل قبل كل شيء.