بقلم: معن محمد
يقف مخيم عين الحلوة، أكبر المخيمات الفلسطينية في لبنان، شامخًا منذ أكثر من سبعة عقود، حارسًا لذاكرة النكبة ووفاءً لحق العودة. يقطنه ما يقارب 80 ألف لاجئ فلسطيني، وتنبض أزقته بروح التنوع الفلسطيني – فصائليًا وفكريًا – ما أكسبه لقب "عاصمة الشتات" عن جدارة.
رغم التصدعات السياسية، والانفجارات الأمنية التي طالت المنطقة المحيطة به، بقي المخيم في السنوات الأخيرة نموذجًا مميزًا للاستقرار النسبي. لم تكن هذه النعمة وليدة فراغ، بل ثمرة وعي جماعي، وتفاهم ضمني بين القوى السياسية والاجتماعية، وتقدير عام لمخاطر الانفجار الداخلي. فالمخيم، بتاريخه ومكانته، لم يكن يومًا مجرد حي سكني للاجئين، بل قاعدة متقدمة للهوية الوطنية الفلسطينية، ودرعًا معنويًا في وجه كل محاولات التفكيك أو التشويه.
فعلى مدى سنوات طويلة، تكسّرت المؤامرات والفتن على أبوابه، وبقيت وحدته الوطنية عنوانًا راسخًا في ذاكرة اللاجئين. حاولت جهات متعددة أن تصبغه بألوان لا تشبهه، أو أن تسلخه عن جذوره النضالية والاجتماعية، إلا أن المخيم بقي صامدًا، متمسكًا بعنوانه الأهم: "حق العودة"، الذي شكّل وما يزال، البوصلة الجامعة لغالبية سكانه
جرائم مرفوضة... وسياق مريب
غير أن هذا الثبات الوطني، والهدوء الأمني، تلقيا مؤخرًا صفعة مؤلمة. فقد شهد المخيم في اليوم حادثتين خطيرتين هزتا وجدانه:
جريمة قتل مروّعة راحت ضحيتها امرأة فلسطينية، أُطلق عليها النار من قبل مجهولين ملثمين في وضح النهار.
واعتداء غادر على ناشط إعلامي واجتماعي شاب، جرى إطلاق النار عليه بشكل مباشر في محاولة واضحة لخلق فتنة وتوتير أمني داخلي.
هاتان الجريمتان، برغم فظاعتهما، لا يتم قرائتهما بمعزل عن السياق العام. فالتوقيت الحسّاس، والطريقة المنظمة في التنفيذ، يوحيان أن الأمر ليس مجرد خلافات فردية أو أحداث عرضية. بل على العكس، يبدو أن هناك من يسعى إلى كسر حالة الاستقرار الهشة داخل المخيم، وتحويل "عاصمة الشتات" إلى ساحة اشتباك أو فوضى أمنية. وهذا يطرح أسئلة مشروعة: من المستفيد من زعزعة أمن عين الحلوة؟ ولماذا الآن؟
الهدف: تشويه المخيم ووضعه في "عين العاصفة"
ليست هذه المرة الأولى التي يُستهدف فيها مخيم عين الحلوة أمنيًا وإعلاميًا. لكنه في كل مرة، كان يخرج أكثر وعيًا وصلابة، مدفوعًا بتجربة نضالية عميقة. اليوم، يبدو أن الهدف الواضح هو إعادة المخيم إلى واجهة التأزيم الأمني والإعلامي، تمهيدًا ربما لتحولات سياسية أو أمنية في المنطقة.
ويخشى أبناء المخيم أن تكون هذه الحوادث بداية لمخطط أوسع، يستثمر في الفوضى، ويعمل على تسليط الأضواء السلبية على المخيم، في لحظة إقليمية مشتعلة ولبنانية غير مستقرة في ظل عدوان اسرائيلي مستمر. ما يعني أن الرد لا يجب أن يكون فقط أمنيًا، بل سياسيًا وشعبيًا في آن، من خلال التأكيد على الوحدة الداخلية، والتنسيق بين القوى الفلسطينية كافة، وتحكيم العقل والمسؤولية الجماعية.
إن عين الحلوة، بعراقة تاريخه وعمق تجربته، ليس مجرد مسرح لأحداث عابرة. بل هو رمز وطني، وواحة مقاومة، ومدرسة في الصبر والتماسك. وما يجري فيه اليوم ليس شأناً داخليًا فحسب، بل جزء من سياق أشمل يستدعي الحذر، والتأهب، والعودة إلى الثوابت الوطنية التي طالما حمت المخيم من الغرق في المستنقعات.
فكما صمد المخيم في وجه الطعنات السابقة، قادر اليوم أيضًا على إفشال المؤامرة الجديدة، مهما بدت غامضة أو مدروسة، شرط أن تتوحد الإرادات وتُرفع المصلحة الوطنية فوق الحسابات الضيقة.