بقلم : عصام الحلبي
شهدت المخيمات الفلسطينية في لبنان، قبيل وأثناء زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى بيروت في 21–23 أيار/مايو 2025 ولقائه الرئيس اللبناني جوزيف عون، حراكًا سياسيًا وشعبيًا لافتًا اتخذ أشكالًا متعددة تحت مسميات مثل "اللقاء التشاوري" و"الحركات الشعبية". هذه التحركات، التي بدت في ظاهرها احتجاجًا على سياسات وكالة الأونروا وأزماتها المالية والخدماتية، حملت في عمقها أبعادًا سياسية تتجاوز الشأن الإغاثي، لتلامس مسألة التمثيل الفلسطيني، ومرجعية القرار داخل المخيمات، ومستقبل الوجود الفلسطيني في لبنان.
لا يمكن فصل توقيت هذه التحركات عن السياق السياسي الأوسع، وخصوصًا أنها تزامنت مع زيارة رسمية عالية المستوى للرئيس محمود عباس، وصدور بيان مشترك لبناني–فلسطيني أكد على جملة من العناوين الحساسة، أبرزها سحب السلاح الفلسطيني الثقيل من المخيمات، وتنظيم الوجود الفلسطيني في لبنان بما يحفظ السيادة اللبنانية وكرامة اللاجئين، وترسيم العلاقة اللبنانية–الفلسطينية ضمن مرجعيتين واضحتين، الشرعية اللبنانية ممثلة بالدولة، والشرعية الفلسطينية ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية. هذا التزامن يطرح تساؤلات مشروعة حول ما إذا كانت التحركات الشعبية عفوية، أم أنها تحمل طابعًا سياسيًا منظمًا يهدف إلى الضغط أو الاعتراض المسبق على مخرجات اللقاء، وخصوصًا ما يتعلق بملف السلاح والمرجعية التمثيلية داخل المخيمات.
لا شك أن الأونروا تعيش أزمة عميقة، وأن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يدفعون ثمن تقليص الخدمات وتراجع التمويل الدولي، غير أن تحويل الغضب الشعبي باتجاه الوكالة فقط، مع تجاهل السياق السياسي الأوسع، يثير الشكوك حول توظيف هذه المعاناة في صراع النفوذ داخل المخيمات. فالاستهداف المباشر للأونروا يتقاطع مع محاولة إضعاف الدور السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الجهة المعترف بها دوليًا كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، وفتح المجال أمام قوى أخرى – وفي مقدمتها حركة حماس – لتكريس نفسها كمرجعية بديلة أو موازية، خاصة في الساحة اللبنانية حيث حساسية السلاح والوجود الأمني.
خلال الزيارة الرسمية التي استمرت ثلاثة أيام، جرى بحث عدد من الملفات الاستراتيجية بين الرئيسين عباس وعون، بناءً على خطوط عامة تمّ التأكيد عليها في البيان المشترك، من بينها الالتزام بإيجاد آليات لتعميم سلطة الدولة اللبنانية على المخيمات وضبط السلاح خارج إطارها بما يحفظ سيادة لبنان، مع احترام الوضع القانوني للاجئين الفلسطينيين، والتأكيد على التنسيق المشترك لتحسين أوضاع اللاجئين الفلسطينيين ومعالجة القضايا الإنسانية والاجتماعية بالتوازي مع معالجة القضايا الأمنية، إضافة إلى اتفاق على تشكيل لجنة لبنانية–فلسطينية مشتركة لمتابعة أوضاع المخيمات والبحث في السبل التنفيذية لترجمة ما تم الاتفاق عليه من خطوات. وقد تولّى ممثّل الرئيس محمود عباس، الأستاذ ياسر عباس، إلى جانب سفير دولة فلسطين لدى لبنان الدكتور محمد الأسعد، متابعة استكمال المباحثات والأطر التي تم الاتفاق عليها خلال الزيارة، عبر اتصالات وتنسيق مع الجهات اللبنانية والفلسطينية المعنية، تأكيدًا لحرص القيادة الفلسطينية على تنفيذ ما تم الاتفاق عليه بما يصبّ في مصلحة الشعبين اللبناني والفلسطيني.
أبدت حركة حماس وحلفاؤها اعتراضًا واضحًا، وإن بطرق غير مباشرة، على مضامين اللقاء اللبناني–الفلسطيني، ولا سيما ما يتعلق بسحب السلاح الثقيل وتنظيم الوجود الفلسطيني تحت سقف الدولة اللبنانية وبالتنسيق مع منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية. وتخشى حماس من أن يؤدي هذا المسار إلى تقليص نفوذها العسكري والأمني داخل المخيمات، وإعادة الاعتبار الحصري لمنظمة التحرير الفلسطينية كمرجعية سياسية، فضلاً عن ضبط العلاقة مع لبنان بما يحدّ من استخدام الساحة اللبنانية كجزء من معادلات إقليمية أوسع. من هنا، يمكن قراءة التحركات الشعبية بوصفها أداة ضغط سياسية، تهدف إلى إرسال رسائل متعددة الاتجاهات، إلى القيادة الفلسطينية، وإلى الدولة اللبنانية، وإلى الأطراف الإقليمية الفاعلة.
لا يمكن عزل ما يجري في المخيمات الفلسطينية في لبنان عن المشهد الإقليمي العام، فالقضية الفلسطينية باتت جزءًا من صراعات المحاور، وحركة حماس تُعدّ أحد الفاعلين المرتبطين بمحور إقليمي يرى في ضبط السلاح الفلسطيني في لبنان وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير خطوة لا تخدم مصالحه. هذا البعد الإقليمي يفسر حجم التصعيد الإعلامي والسياسي، ومحاولات خلط الأوراق بين القضايا المعيشية والملفات السياسية، والسعي إلى إبقاء المخيمات خارج أي تسوية واضحة تنظم علاقتها بالدولة اللبنانية.
إن تنظيم الوجود الفلسطيني في لبنان لا يعني التوطين ولا المساس بحق العودة، بل يشكل مدخلاً لحماية اللاجئين من الفوضى الأمنية والاستغلال السياسي، ولتعزيز استقرار المخيمات والدولة اللبنانية على حد سواء. وفي المقابل، فإن إبقاء المخيمات ساحة مفتوحة للصراعات الإقليمية، تحت شعارات مطلبية محقة، يهدد النسيج الاجتماعي الفلسطيني–اللبناني، ويضعف الموقف الفلسطيني نفسه. التحركات الجارية في الشارع الفلسطيني في لبنان تعكس أزمة عميقة تتجاوز الأونروا إلى سؤال التمثيل والقرار والسيادة. وبينما يبقى تحسين أوضاع اللاجئين أولوية لا جدال فيها، فإن تحويل المعاناة الإنسانية إلى أداة صراع سياسي، في لحظة إقليمية حساسة، يحمل مخاطر جدية على المخيمات ومستقبل القضية الفلسطينية في لبنان. إن نجاح أي مقاربة مستدامة يتطلب التزامًا واضحًا بالشرعيتين اللبنانية والفلسطينية، وحوارًا مسؤولًا يضع مصلحة اللاجئ فوق حسابات المحاور، ويحمي المخيمات من أن تكون وقودًا لصراعات الآخرين.