آية يوسف المسلماني – مقالات النهار الاخباريه
في لحظات مفصلية من العمر، تحتاج المرأة كما يحتاج كل إنسان إلى هدنة مع الذات.
هدنة لا ترتبط بالانسحاب ولا تحمل معنى الهزيمة، بل تُشبه وقفةً داخلية تُراجع فيها ما تراكم على الروح من أثقال، وما تركته التجارب من علامات، وما بقي لديها من رغبة صادقة في الحفاظ على سلامها الداخلي.
فالمرأة التي تبدو قوية ومتماسكة أمام العالم، تعرف جيداً كيف تحمي عالمها الخاص، وكيف تحفظ حدود قلبها بوعي لا يخونها.
لم تكن يوماً ممن يفتحون أبوابهم الأولى بسهولة، ولا ممن يمنحون ثقتهم لمن يمرّون مروراً عابراً.
فهي تدرك قيمة ما تملكه، وتعي أن قلبها ليس مساحة مفتوحة، ولا فرصة متاحة لكل العابرين. ومع ذلك، يحدث أحياناً أن يتسلّل استثناءٌ ما إلى حياتها.
ليس استثناءً بمعناه الشخصي، بل بمعنى تلك اللحظة الإنسانية التي يتراجع فيها الحذر قليلاً، ويقترب شيء من داخلها نحو منح الثقة.
يحدث ذلك حين يخدعها الصدق، أو حين يمنحها شعوراً نادراً بالأمان، فيميل القلب برفق نحو مساحة لم يكن يخطّط لفتحها.
لكن كثيرين، ما إن يشعروا بأن المرأة قد بادلتهم صدقاً، حتى تتغير خطواتهم الأولى.
يتراجع الاهتمام الذي شكّل البدايات، وتضعف التفاصيل التي صنعت الاطمئنان، فينبثق الخذلان.
وهنا يتشكّل الوجع الحقيقي: ليس لضعفٍ أصابها، بل لأنها صدّقت ما ظنّت أنه حقيقة، ومنحت قيمة لم يُحسن الآخر التعامل معها.
هذا النوع من الخذلان لا يمرّ بلا أثر.
إنه يعيد رسم نظرتها إلى نفسها وإلى الآخرين، لا بوصفه جرحاً، بل بوصفه درساً يضيف إلى وعيها طبقة جديدة من الفهم.
فالمرأة لا تفقد قدرتها على الحب، لكنها تدرك بعد الألم أن قلبها أثمن من أن يُمنح بسخاء، وأن الثقة مسؤولية لا يليق بها إلا من يعرف وزنها، لا من يستهين بها.
ومن هذا الإدراك، تظهر الحاجة إلى هدنة جديدة.
هدنة مع الأسئلة المتعبة، ومع محاولات تفسير ما لا يحتاج تفسيراً، ومع الذكريات التي لم تعد تليق بالبقاء. هدنة تعيد فيها ترتيب عالمها الداخلي، لا لتغلقه، بل ليصبح أكثر صفاء وثباتاً.
إنها لحظة تستعيد فيها المرأة هدوءَها، وتضع مسافةً آمنة بينها وبين كل ما لم يعد يشبهها.
فالمرأة التي تتألم ثم تنهض، لا تعود كما كانت.
تعود أكثر وعياً بذاتها، وأدقّ في اختيار من يستحق حضورها.
تعود وقد فهمت أن الاحترام الذي تمنحه لنفسها هو أساس كل علاقة صحية، وأن التجارب المؤلمة ليست نهاية الطريق، بل محطة ضرورية لتعزيز وعيها ونضجها.
ويبقى في الذاكرة دائماً أثر لا يُمحى.
ليس لأن الألم أقوى من الزمن، بل لأن القلب الذي منح استثناءً ثم استعاد نفسه، يتغيّر.
يصبح أكثر قدرة على حماية قيمته، وأوضح في تمييز ما يليق به وما ينبغي تجاوزه، وأقرب إلى ذاته التي تستحق الثبات والطمأنينة.
وحين تستعيد المرأة قلبها، لا تعود باحثة عمّن يمنحها ما افتقدته، بل منطلقة من فهم عميق أنّ قيمتها في داخلها، وأن قدرتها على النهوض هي ما يصنع المسار الحقيقي لحياتها.
هكذا يصبح الاستثناء الذي عبر ذات يوم مجرد فصلٍ عابر في روايةٍ أعمق، فصل انتهى…
لكنه ترك وراءه امرأة أكثر وعياً، وأكثر قدرة على الاحتفاظ بقلبها في المكان الذي يليق به.