على خلفية الجدل المحتدم الذي أحاط باللقاء بين رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، والذي عُقد في نهاية الأسبوع الماضي، يتضح أكثر فأكثر أن وراء دفء العلاقات بين روما ورام الله تقف شخصية دبلوماسية فلسطينية واحدة هي منى أبو عمارة، سفيرة السلطة الفلسطينية لدى إيطاليا.
أبو عمارة، التي تشير صفحتها على فيسبوك إلى أنها من سكان القدس الشرقية، تُعد من أبرز دبلوماسيي الجيل الجديد من ممثلي السلطة الفلسطينية في أوروبا. جذورها المقدسية تمنح نشاطها بُعدًا رمزيًا واضحًا؛ إذ تقدّم نفسها كممثلة لـ«فلسطين من القدس»، وتروّج في الساحة الدولية لرواية تتحدى ادعاء إسرائيل بالسيادة الحصرية على عاصمتها.
صعود سريع وتأثير في الساحة الغربية
حققت أبو عمارة انطلاقتها الدبلوماسية في كندا، حيث شغلت منصب ممثلة السلطة الفلسطينية في أوتاوا. وخلال ولايتها، أدارت نشاطًا دعائيًا مكثفًا في الأوساط العامة والأكاديمية، وصفت فيه إسرائيل بأنها «دولة فصل عنصري»، واعتبرت قطاع غزة «أكبر سجن مفتوح في العالم»، وحمّلت إسرائيل وحدها المسؤولية عن الوضع الإنساني.
تزامنت فترة عملها في كندا مع تغيّر في موقف الحكومة الكندية من القضية الفلسطينية، تُوّج باعتراف كندا بدولة فلسطينية. وتشدد مصادر مختلفة على أن الأمر لا يشكل علاقة سببية مباشرة، لكنها تشير إلى أن نشاطات أبو عمارة ساهمت في الزخم الشعبي والسياسي الذي أتاح اتخاذ هذه الخطوة.
الانتقال إلى إيطاليا: مناخ سياسي متغير
بعد انتهاء مهمتها في كندا، عُيّنت أبو عمارة سفيرة للسلطة الفلسطينية في إيطاليا، وهو تعيين اعتبرته مصادر سياسية خطوة في توقيت مناسب. عشية هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت إيطاليا تُعد من أكثر الدول الأوروبية ودًّا تجاه إسرائيل، بل طُرحت آنذاك نقاشات حول نقل السفارة الإيطالية إلى القدس.
منذ حرب غزة، طرأ تغيّر ملحوظ على المناخين الشعبي والسياسي في إيطاليا، حيث تعززت الأصوات المنتقدة لإسرائيل وتزايد التعاطف مع الجانب الفلسطيني. وفي هذا الواقع، تعمل أبو عمارة – بحسب مصادر دبلوماسية إسرائيلية – على الترويج لرواية فلسطينية متقنة، تستهدف النخب السياسية والثقافية والأكاديمية.
قرب من النخبة الإيطالية وجدالات عامة
في 8 نوفمبر/تشرين الثاني، شوهدت أبو عمارة في فعالية عامة إلى جانب رئيسة الوزراء الإيطالية ميلوني، حيث تبادلتا المصافحة بحرارة، وهو تسجيل أثار اهتمامًا واسعًا على وسائل التواصل الاجتماعي. وبعد نحو ثلاثة أسابيع، في 28 نوفمبر/تشرين الثاني، شاركت أبو عمارة على وسائل التواصل عملًا فنيًا لفنانين في إيطاليا أُنجز تضامنًا مع مروان البرغوثي، القيادي البارز في حركة فتح والمحكوم بالسجن المؤبد في إسرائيل بتهم تتعلق بالمشاركة في هجمات خلال الانتفاضة الثانية. وقد أثارت هذه المشاركة انتقادات من جهات مؤيدة لإسرائيل، رأت فيها شرعنة غير مباشرة للإرهاب.
بنية دبلوماسية تتجاوز السيادة
إلى جانب السفارة الفلسطينية في روما، تعمل العاصمة الإيطالية – شأنها شأن فرنسا وبريطانيا – على تشغيل قنصلية عامة في القدس الشرقية، لا تتبع السفارة في تل أبيب وتحافظ على علاقات مباشرة مع مؤسسات السلطة الفلسطينية. وتوضح القنصلية أنها تعمل على تطوير «العلاقات مع السلطات الفلسطينية والمجتمع المدني»، وهي صيغة يرى فيها مسؤولون إسرائيليون التفافًا على السيادة الإسرائيلية في القدس.
إلى جانب ذلك، تنشط في القدس وكالة AICS – الذراع الإيطالية للتعاون والتنمية، وهي هيئة حكومية مدعومة من وزارة الخارجية الإيطالية. وتموّل الوكالة مشاريع في القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة، تحت تعريف «الأراضي الفلسطينية المحتلة».
في يناير/كانون الثاني من هذا العام، أعلنت الوكالة عن استثمار بقيمة خمسة ملايين يورو في مشروع «إعادة إعمار غزة»، وفي فبراير/شباط أعلنت تعاونًا مع جامعة القدس ومنظمة العمل الدولية لتعزيز «الشباب الفلسطيني». اللغة المستخدمة – مثل «إعادة التأهيل بعد الحرب» و«الابتكار في الأراضي المحتلة» – تُفسَّر في إسرائيل على أنها تحمل حمولة سياسية واضحة.
«حملة هادئة لكنها خطيرة»
بحسب ران يشاي، رئيس قسم الأبحاث في مركز القدس للسياسات التطبيقية (JCAP)، والسفير السابق ورئيس ديوان وزير الخارجية، فإن الأمر يشكل ظاهرة أوسع:
«سهولة قيام دبلوماسيين فلسطينيين بالتحريض على إسرائيل حول العالم، في ظل الصمت وأحيانًا التشجيع من الدول المضيفة، أمر لا يُحتمل. الدلالة ليست معرفية فقط – فقد تتسرب أيضًا إلى العنف».
وأضاف يشاي: «من المثير للغضب أن دولًا مثل إيطاليا، التي كانت حتى عشية 7 أكتوبر تفكر في نقل سفارتها إلى القدس، تسمح بحدوث مثل هذه الظواهر على أراضيها، بينما يعمل في القدس مقر قنصلي إيطالي نعتبره غير قانوني. ومع ذلك، تُسمع أيضًا أصوات أكثر عقلانية في إيطاليا وأوروبا، وأعتقد أن هذا التشويه يمكن تصحيحه».
في نظر المسؤولين الإسرائيليين، لم تعد منى أبو عمارة مجرد سفيرة فلسطينية، بل أصبحت رمزًا لجيل جديد من الدبلوماسية الفلسطينية – جيل لا يعمل في ساحات القتال، بل في قلب الساحة الأوروبية، مستخدمًا اللغة الغربية والرموز الثقافية والدبلوماسية الناعمة. وفي هذا العصر، يجادلون بأن الصراع على الرأي العام والشرعية الدولية قد لا يقل حسمًا عن الصراع العسكري.
وعليه، لا يُنظر إلى لقاء ميلوني–عباس على أنه حدث دبلوماسي عابر، بل كجزء من حملة أوسع وأكثر هدوءًا – حملة تلعب فيها شخصيات مثل أبو عمارة دورًا محوريًا.