الجمعة 19 أيلول 2025

الفدرالية في لبنان: بين المخاطر الداخلية والخارجية



وكالة النهار الاخبارية/ باسم جوني

لم يكن طرح الفدرالية في لبنان وليد اليوم، فقد سبق أن تبنّاه رئيس الجمهورية الأسبق كميل شمعون، وحاول تجسيده الرئيس بشير الجميّل خلال سنوات الحرب الأهلية. وما زال هذا الطرح حاضرًا في النقاش اللبناني، بل ازداد تداولًا وتشددًا في أوساط مؤيديه، مستفيدًا من بيئة مشبعة بالانقسامات والعصبيات الطائفية، لا سيما بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان.غير أن اللافت في هذا النقاش، هو حجم الالتباس القائم بين أنصار الفدرالية أنفسهم، فبينما يعتبرها البعض مشروعًا تقسيميًا يُكرّس عزلة الطوائف عن بعضها، يراها آخرون إطارًا توحيديًا يضمن وحدة الدولة مع الحفاظ على خصوصية مكوّناتها المتنوعة.

عُرّف النظام الفدرالي، والذي يعود أصوله إلى القرن السابع عشر، بأنه أحد أنماط التنظيم السياسي للدول، يقوم على اتحاد عدة وحدات سياسية مستقلة (ولايات، كانتونات، أو أقاليم ...)، ضمن إطار دولة واحدة، بحيث تحتفظ هذه الوحدات بقدر واسع من الاستقلال الذاتي في إدارة شؤونها، وبمؤسسات خاصة بها منفصلة عن مؤسسات الحكومة المركزية. تدير الوحدات الفدرالية شؤونها الداخلية عبر حكومات محلية كاملة الصلاحيات، بينما تُسند إلى الحكومة المركزية القضايا المشتركة الكبرى مثل السياسة الخارجية، الدفاع، وإدارة الشؤون المالية العامة، بما في ذلك جباية الضرائب وإعداد الموازنة الفدرالية. وتستفيد كل وحدة فدرالية من حصتها في العائدات الضريبية والأنشطة الاقتصادية والاستثمارية الواقعة ضمن نطاقه.

وفي ظل الأرضية اللبنانية المهيّأة للتقسيم، بفعل الطائفية السياسية التي تتحكم بمفاصل المجتمع في أبعاده السياسية والاجتماعية كافة، يرى بعض الأطراف أن النظام الفدرالي يمثّل الحل الأنسب، معتبرين إياه خطوة نحو تقسيم، يُترجم اللامركزية فيه إلى كيانات طائفية تدير شؤونها بنفسها. ويمتد هذا المنطق ليصل إلى قضايا كبرى، مثل الحفاظ على السيادة أو منع احتكار قرار الحرب والسلم، وفق ما يطرحه مناصرو هذا النظام. وهنا يظهر التناقض بين الفدرالية كنظام سياسي متكامل، وبين الرؤية اللبنانية المطروحة لتطبيقها. وإذا ما قورنت الفدرالية بالنظام اللبناني القائم، نجد أن مركزية الدولة تعاني هشاشة وضعفًا بنيويًا، بفعل الاقتصاد الريعي، والارتهان المفرط للمساعدات الخارجية، وغياب السياسات الاقتصادية والإصلاحات الجدية، وهو ما يُعزى أساسًا إلى الطائفية السياسية. ومن البديهي أن أي نظام فدرالي، قائم على لامركزية واسعة، لا يمكن أن ينجح من دون وجود مركز قوي يشكّل الغطاء العام للأمن القومي سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا. وعليه، فإن المطالبين بالفدرالية في لبنان، وفق الصيغة المطروحة، سيجدون أنفسهم معتمدين في "ولاياتهم" على صلاتت طوائفهم بقوى خارجية، ما يفتح الباب أمام دعم خارجي للبعض وحرمان آخرين. وهذا لا يقتصر على نفي جوهر الفدرالية - الاتحادية فحسب، بل يرسّخ أيضًا أزمة غياب الدولة ويعمّق ضعفها بدل معالجته.

وفي عودتنا لجهوزية القاعدة التقسيمية على الأسس الطائفية في المجتمع اللبناني، فإن طرح  الفدرالية مع عدم وضحوها لمناصريها في هذا الشكل، لن تأخذ مسار الا نحو زيادة شد العصب الطائفي ووالشرخ داخل المجتمع اللبناني، ما يشكل خطرا على السلم الأهلي، عوضا عن أن المستفيد الاول من هذا الخطاب هو السرطان الصهيوني الموجود على الحدود اللبنانية وداخل أراضيها، فإن مشروع اسرائيل الكبرى قائم على تقسيم المجتمعات العربية لدويلات طائفية لاعطاء شرعية بناء دولة يهودية، ولاستكمالها بانهاء هذه المجتمعات بعد تقسيمها وتفتيتها. وهذا ما  سعى اليه في لبنان خلال الحرب الأهلية، ويسعى اليه اليوم في سوريا أيضا من خلال ما نشهده من أحداث توغل إسرائيلي داخل الأراضي السورية. وإن حلفاء إسرائيل من رؤساء لبنان السابقين، هم أكثر من دعموا إنشاء الحكم الفدرالي، ما يدل على ارتباط هذا المشروع الخطير، بالقضاء على وحدة المجتمع في لبنان، بعد أن قسم الاستعمار الغربي المجتمعات العربية في العقود السابقة.

وبين التحديات الداخلية والتهديدات الخارجية، ومع استمرار النظام اللبناني في عجزه عن بناء دولة مواطنة قوية، يبرز الحل في تأسيس كتلة اجتماعية موحّدة تنبثق من دولة مدنية تُعامل الشعب على أساس المواطنة لا الطائفية. فقد أثبتت التجارب السابقة أن المحاصصات الطائفية ليست سوى أداة لتكريس مصالح طبقية بغطاء فئوي، على حساب المصلحة الوطنية العامة. كما جاء العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان ليؤكد أن مواجهة الأخطار الخارجية لا يمكن أن تتم إلا عبر التضامن والتكاتف وتوحيد الخطاب والرؤية السياسية ضمن مشروع وطني واضح، لا عبر طرح شعارات تقسيمية تعمّق الشرخ الداخلي، ولا من خلال الاكتفاء بشعارات فضفاضة أثبتت عجزها منذ الحرب الأهلية حتى اليوم.

ومن هنا يمكن الوصول إلى خلاصة واضحة، تتمثل بأن تطبيق الفدرالية، التي تقوم في جوهرها على مبدأ الاتحاد، سيتحوّل في الحالة اللبنانية إلى نظام تقسيمي. فالاتحاد بطبيعته، لن يكون مقبولًا من تل أبيب، إذ إن وجود الاحتلال بحد ذاته يشكّل العائق الأكبر أمام من يلتبس عليه فهم الفدرالية. لأن نتيجة هذا الاحتلال هي استمرار نشوء حركات مقاومة، ما يعني استحالة حصر السلاح بيد السلطة المركزية، الأمر الذي قد يمنح "ولاية" قوة متفوقة على غيرها.