بقلم عصام الحلبي
في قلب المغرب العربي، وعلى ضفاف المتوسط، اندلعت واحدة من أعظم ثورات القرن العشرين، الثورة الجزائرية. لم تكن مجرد مقاومة مسلحة ضد احتلال، بل كانت معركة وجود وثقافة وكيان وهوية، خاضها شعبٌ حاول الاستعمار الفرنسي طيلة 132 عامًا أن يُلغيه من الخريطة: أرضًا، وثقافة، وذاكرة.
الاستعمار الفرنسي للجزائر.. مشروع استيطاني بدأ عام 1830
في صباح يوم 5 يوليو/تموز 1830، دخلت القوات الفرنسية مدينة الجزائر، وبدأ بذلك أطول استعمار مباشر عرفته القارة الإفريقية. لم يكن غزوًا عسكريًا فقط، بل بداية مشروع استيطاني هدف إلى تحويل الجزائر إلى "فرنسا ما وراء البحار".
حيث القوات الفرنسية الغازية الأراضي، وجعلتها ملكًا للمستوطنين الأوروبيين المعروفين بـ"الأقدام السوداء". كما فرضت اللغة الفرنسية، وأغلقت المدارس القرآنية، ومنعت التعليم باللغة العربية، وأحلت التشريعات الفرنسية محل الأحكام الإسلامية والعربية، وجرّدت الجزائريين من جنسيتهم.
وفي عام 1930، لم تكتفِ فرنسا بإحياء الذكرى المئوية لغزوها، بل نظّمت احتفالات ضخمة بعنوان "القرن الفرنسي في الجزائر"، أعلنت خلالها نيتها تحويل الجزائر إلى جزء أبدي من فرنسا. كان ذلك الحدث بمثابة استفزاز صريح للشعب الجزائري، ساهم في بلورة وعي وطني ، مهّد لانفجار ثوري شامل بعد أقل من ربع قرن.
محاولات طمس الهوية الجزائرية
مارس الاحتلال سياسة "الفرنسة" بالقوة، فحارب اللغة العربية، وحرّف التاريخ، وألغى أي مظهر من مظاهر السيادة الوطنية الجزائرية او العربية. حاول أن يصوّر الشعب الجزائري كجماعات " غير متحضرة"، لا تملك ثقافة أو تراثًا أو تاريخا، ويجب "تمدينها" بالنموذج الفرنسي.
لكن الشعب الجزائري قاوم بكل وسائل النضال. حافظ على لغته في البيوت والزوايا، وحوّل المساجد والزوايا الصوفية إلى مدارس سرية، واحتضن النخبة الوطنية التي بدأت تُحيي روح المقاومة الفكرية والثقافية تمهيدًا للكفاح المسلح.
انطلاقة الثورة: 1 نوفمبر 1954
في منتصف القرن العشرين، وبعد إخفاق كل أساليب المقاومة السلمية، أعلنت جبهة التحرير الوطني في 1 تشرين الثاني/نوفمبر 1954 انطلاق الثورة المسلحة. حيث دوّت الانفجارات في جبال الأوراس، معلنة بداية حرب شعبية لتحرير الجزائر من استعمار استيطاني إحلالي دموي عمره 124 سنة آنذاك.
أسّست جبهة التحرير ذراعها العسكري "جيش التحرير الوطني"، وشكّلت خلايا ثورية داخل المدن والجبال، ونظّمت الشعب في قرى المقاومة، وأطلقت معارك كرّ وفرّ أرهقت الجيش الفرنسي المستعمر، الذي استخدم الطائرات والنابالم والاعتقالات والتعذيب الجماعي، دون أن ينجح في إخماد الروح الوطنية.
قادة الثورة الجزائرية.. رجال صنعوا التاريخ والمجد
قاد الثورة الجزائرية رجال من مختلف المناطق والخلفيات، توحّدوا على هدف التحريرابرزهم:
مصطفى بن بولعيد: مفجّر الثورة في الأوراس، وأحد أبرز القادة الميدانيين.
العربي بن مهيدي رمز للبطولة، استشهد تحت التعذيب دون أن ينطق بكلمة.
زيغود يوسف: قائد هجومات الشمال القسنطيني عام 1955.
ديدوش مراد أصغر أعضاء القيادة الثورية، استشهد وهو لم يبلغ الثلاثين من العمر.
رابح بيطاط، محمد بوضياف، حسين آيت أحمد، كريم بلقاسم، أحمد بن بلة: وهم أعضاء مجموعة الستة المؤسِّسة، وكان لهم دور سياسي وعسكري مفصلي.
كان القادة يؤمنون أن المعركة ليست فقط لتحرير الأرض، بل أيضًا لتحرير الإنسان من التبعية والخنوع والذل.
المرأة الجزائرية رفيقة السلاح
لم تكن المرأة الجزائرية مجرد داعمة للثورة، بل كانت جزءًا منها في الخنادق والمشافي والمدن. حملت السلاح، ونقلت الرسائل، وخبأت الفدائيين، وشاركت في العمليات، وساهمت في إعادة إنتاج النسيج الوطني المقاوم واشهرهن:
جميلة بوحيرد اصبحت رمزا عالميا للبطولة الأنثوية، شاركت في معركة الجزائر، واعتُقلت وتعرضت لتعذيب وحشي، وصمدت في وجه جلّاديها.
جميلة بوباشا تحولت الى قضيتها تلى كل العالم بعد تعذيبها، وأصبحت أيقونة عالمية للتضامن.
حسيبة بن بوعلي طالبة استشهدت في معركة القصبة عام 1957، وكانت من أوائل الفدائيات في العاصمة الجزائر.
زهور ونيسي، مليكة قايد، ليلى مراح، أسماء لامعة في سجل النساء المناضلات، تركن بصمة في تاريخ نضال الجزائر لا يمحى.
هؤلاء النسوة، وآلاف غيرهن، جسّدن مقولة "الثورة أمّ الرجال والنساء"، وساهمن في نقل الجزائر من زمن الصمت إلى زمن الانفجار الوطني.
الدعم العربي ..من القاهرة إلى بغداد
وجدت الثورة الجزائرية صدى واسعًا في العالم العربي، دعمتها مصر بقيادة جمال عبد الناصر دعمًا كاملاً بالسلاح والتدريب والتمويل. فتحت إذاعة "صوت العرب" أبوابها للثوار، وكانت منبرًا يوميًا لصوت الجزائر.
تونس والمغرب قدّمتا أراضيهما كقواعد خلفية، واحتضنتا اللاجئين والثوار. كما ساهمت سوريا، العراق، السودان، وليبيا في دعم سياسي وإعلامي ومالي، وأطلقت شعوبها حملات شعبية للتبرع بالمال والدم، وخرجت المظاهرات من الرباط إلى بغداد تهتف "تحيا الجزائر".
الجزائر وفلسطين..
ثورة ولدت من رحم ثورة
كان الرباط النضالي بين الجزائر وفلسطين طبيعيًا، فالشعبان عاشا مرارة الاستعمار، وتقاسما وجع الاقتلاع. شارك عدد من الفلسطينيين في صفوف جيش التحرير الوطني الجزائري، وتلقوا تدريباته، ونسجوا علاقات نضالية مبكرة.
بعد الاستقلال، تحولت الجزائر إلى قاعدة خلفية للثورة الفلسطينية، واحتضنت قياداتها، ودعمتها ماديًا وسياسيًا، ورفعت صوت فلسطين في كل محفل. وكان الرئيس هواري بومدين صريحًا حين قال: "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، وهي عبارة أصبحت ميثاقًا جزائريًا ثابتًا.
الاستقلال 5 يوليو 1962... يوم الحرية والنصر
بعد حرب طاحنة استمرت سبع سنوات ونصف، وخلّفت أكثر من مليون ونصف مليون شهيد، وقّعت فرنسا اتفاقيات إيفيان في مارس 1962، واعترفت بالاستقلال الكامل للجزائر في 5 يوليو 1962.
خرج الشعب الجزائري إلى الشوارع، يبكي شهداءه، ويهتف لحريته التي انتزعها انتزاعًا، في ملحمة لم يكن فيها المستحيل خيارًا.
الثورة التي علّمت الشعوب كيف تتحرر
الثورة الجزائرية لم تكن مجرد حدث، بل منعطفًا حضاريًا وسياسيًا في تاريخ البشرية. أثبتت أن الشعوب، مهما طال ليل استعمارها، قادرة على الانبعاث من جديد وان تصنع فجر النصر، وأن البندقية حين تتسلّح بالإرادة، تهزم الإمبراطوريات.
لا تزال الجزائر حتى اليوم، بما تحمله من ذاكرة الشهداء وروح الثورة، منارة لكل من يسير على طريق التحرر... من فلسطين إلى كل أرض ما زالت تبحث عن شمسها.