الثلاثاء 16 كانون الأول 2025

أنا مين… أبو العز وفقدان الهوية القانونية

بقلم : عصام الحلبب
حدّثني صديق عن رجل يعرفه ويذكره دائماً بنبرة محمّلة بالأسى والإعجاب  في ٱن معا ويكنى بأبي العز.  ابو العز رجلٌ خرج من قريته في الضفة الغربية بعد نكسة 1967 كما يخرج الإنسان من بيته على عجلٍ يحمل معه ما استطاع، ويترك خلفه ما لا يمكن حمله، لم يأخذ أبو العز معه سوى شهادة ولادة صادرة عن دائرة الصحة الفلسطينية القديمة؛ ورقة باتت اليوم بلا قيمة قانونية، لكنها كانت وما زالت بالنسبة له آخر خيطٍ يربطه بزمان كان فيه كل شيء واضحاً، قريته، اسمه، مكانه في العالم.
كبر أبو العز في لبنان، وتزوّج من فتاة فلسطينية لاجئة، ولكن الزواج على أهميته، لم يُضف شيئاً إلى وضعه القانوني، أولاده أيضاً لم ينالوا من الدولة سوى ورقة مستشفى أو شهادة ولادة من مختارٍ يعرف أنّها ستبقى حبراً على ورق لا يذهب إلى أيّ دائرة رسمية. وثائق لا تُسجّل، لا تُعترف بها، ولا تُفتح بها أبواب المدارس أو المؤسسات أو حتى المستقبل ،وهكذا وجد نفسه وأسرته، ومعهم ما يقارب 2700 شخص، عالقين خارج أي نظام قانوني، كأنّهم يعيشون في مكان منفصل عن الزمن، لا ينتسبون إلى دولة ولا إلى سجل ولا إلى كيان يمنحهم مجرد رقم.

وهنا يبدأ الجرح الحقيقي، ففقدان الهوية القانونية ليس مجرد نقص في الأوراق الرسمية، بل هو نقص في القدرة على العيش الطبيعي. إنسان بلا هوية هو إنسان لا يستطيع تسجيل أولاده، ولا الالتحاق بمدرسة دون صعوبات، ولا العمل بشكل نظامي، ولا الحصول على ضمان صحي، ولا امتلاك منزل، ولا عبور حاجز من دون ارتجاف، ولا حتى أن يقول بثقة "هذا أنا". يصبح الفرد أسير حياته اليومية، أسير سؤال يطارده مثل ظلّ ثقيل "أنا مين؟"

كان أبو العز يروي لصديقي أنّه وقف يوماً أمام المرآة، ونظر إلى وجهه الذي تغيّر مع السنين، ثم سأل نفسه بصوتٍ مسموع: "أتيت ثائراً حُرّاً ضد الاحتلال… واليوم، أنا مين"؟ هذا السؤال لم يكن بكاءً فردياً بقدر ما كان تعبيراً عن حالة جماعية يعيشها آلاف الفلسطينيين المعلّقين بين وطنٍ مُحتل ووطنٍ مضيف، بين ذاكرة ممتلئة بالانتماء وواقع خالٍ من الاعتراف.
ومع ذلك، لا تتوقف المأساة عند حدود المشاعر فهي تتسع لتطال البناء الاجتماعي برمّته. فالشخص الذي يفتقد هويته القانونية يعيش قلقاً دائماً، يشعر بأن الأرض تهتز تحت قدميه كلما فكّر في مستقبل أولاده، يعاني صعوبات في الزواج والمعاملات اليومية، ويجد نفسه محاطاً بأسئلة لا يملك إجابة عنها،المجتمع بدوره يتعامل معه بحذر أو بجهل، كأنه كيان غامض لا يصنف ضمن "مواطن" ولا ضمن "لاجئ مسجّل" ولا حتى ضمن "مقيم"، إنها حالة رمادية تضع الإنسان على هامش كل شيء، هامش القانون، هامش الدولة، وهامش الحياة.
ومن هنا انطلق السؤال الثاني الذي يطرحه أبو العز، سؤال لا يقل وجعاً عن الأول: "ومن هي الجهة التي ستخرجني من هذا الوضع؟ هي مين؟"
هل هي الدولة اللبنانية التي تحمل حساسية تاريخية وديموغرافية معقدة، لكنها تملك في الوقت نفسه القدرة على سنّ إطار قانوني إنساني يمنح هؤلاء الحد الأدنى من الحياة الرسمية؟
أم هي الأمم المتحدة والأونروا التي لطالما لعبت دور المسجّل والوسيط، لكنها تقف اليوم أمام تحديات مالية وسياسية تجعل دورها محدوداً؟
أم هي السلطة الفلسطينية التي يفترض أن تكون حاضنةً لهؤلاء، لكنها هي الأخرى مقيدة بواقع سياسي لا يتيح لها مد ذراع قانوني خارج الحدود؟
أم أنّ المجتمع المدني—اللبناني والفلسطيني—هو من سيحمل هذا الملف، يوثق الحالات، ويدفع باتجاه تسوية قانونية تحفظ كرامة الناس؟

الحقيقة أنّ الحل لن يكون من جهة واحدة، بل من شراكة تضع الإنسان في مركز المعادلة، لا السياسة ولا الحسابات. فهؤلاء ليسوا أرقاماً، بل عائلات تمتد جذورها إلى القرى التي هُجّروا منها، وأجنحتهم اليوم مقصوصة في المخيمات التي وُلدوا فيها، هويتهم موجودة في وجدانهم، لكنها غير موجودة في السجلات.
أبو العز لا يريد امتيازات ولا مواطنة كاملة ولا تغييراً ديموغرافياً، كل ما يطلبه هو أن يستطيع أن يعرّف نفسه، أن يسجل أولاده، أن يعالجهم، أن يشعر أنه موجود فعلياً لا رمزياً. يريد ورقة تقول للعالم إن هذا الإنسان له مكان، وأنه ليس مجرد رقم ناقص من القيود، ولا ظلّ يتنقل بين القوانين بلا اسم.
هكذا يبقى السؤال معلّقاً في الهواء:
إذا كان أبو العز يسأل نفسه "أنا مين؟" فالمجتمع كله مطالب اليوم أن يسأل: ومن هي الجهة التي ستعيد لهذا الإنسان اسمه، وحاضره، ومستقبله؟
سؤال بسيط في صياغته، لكنه ثقيل في وزنه الأخلاقي والإنساني والسياسي، ما لم تتم الإجابة عليه، ستبقى آلاف الوجوه تنظر إلى المرآة كل صباح وتردد بصوتٍ خافت… "أنا مين؟"