النهار الاخباريه - تحرير جابر - بيت لحم
تدخل مدينة بيت لحم موسم الأعياد هذا العام وهي تواجه واقعًا استثنائيًا لم تعهده من قبل. بعد عامين متواصلين من الحرب وأزماتها المتلاحقة، أصبح الاحتفال بالأعياد المجيدة ليس مجرد تقليد سنوي، بل اختبارًا للصمود والقدرة على التكيّف مع ضغوط سياسية واقتصادية واجتماعية متشابكة. المدينة التي طالما كانت مقصدًا للحجاج والزوار من مختلف أنحاء العالم، أصبحت في السنوات الأخيرة ميدانًا لتحديات معقدة: حركة سياحية شبه متوقفة، اقتصادات محلية منهكة، ومجتمع يتقلب بين الحاجة للفرح والحذر من الواقع القاسي المحيط به.
الواقع السياسي وتأثيره على الأعياد
لا يمكن فصل احتفالات بيت لحم عن السياق السياسي الذي تعيشه فلسطين. فالمدن الفلسطينية، بما فيها بيت لحم، تتعرض لضغوط مستمرة من الاحتلال والتوترات الداخلية بين الفصائل المختلفة، مما يجعل حالة عدم اليقين سمة أساسية في حياة الناس. بالنسبة لسكان بيت لحم، لا يُعد موسم الأعياد مناسبة عابرة للفرح، بل اختبارًا للقدرة على الموازنة بين الأمن الشخصي والطقوس الدينية والاجتماعية. كل قرار بسيط، مثل إقامة قداس أو تنظيم فعالية عامة، يخضع لتقييم دقيق للمخاطر، سواء المتعلقة بالحركة أو بالتجمعات العامة أو حتى بتأمين المرافق الضرورية.
هذه الضغوط السياسية جعلت من الأعياد حدثًا مختلفًا عن سابقاتها؛ لم تعد هناك احتفالات ضخمة أو مهرجانات مفتوحة، وإنما مساحات محدودة للتجمعات الرمزية، تُظهر التمسك بالهوية والطقوس الدينية دون الإخلال بالواقع الأمني والسياسي.
البعد الاقتصادي وتأثيره العميق
اقتصاد بيت لحم يعتمد بشكل رئيسي على السياحة الدينية خلال موسم الأعياد، وهو ما يجعل المدينة عرضة لتقلبات شديدة في أي ظرف سياسي أو أمني. بعد عامين من الحرب، تراجعت حركة السياحة بشكل حاد، ما انعكس على الفنادق، والمطاعم، ومتاجر الهدايا والتحف، وحتى على الأعمال الصغيرة المرتبطة بالقداس أو الاحتفالات الجماعية. أصحاب الفنادق والمطاعم والتجار المحليون يتحدثون عن خسائر فادحة، وحجوزات أُلغيت في اللحظة الأخيرة، وعمال فقدوا وظائفهم بسبب الركود المستمر.
العائلات الفلسطينية أيضًا واجهت تحديات مالية كبيرة. حيث اضطر الكثيرون لإعادة ترتيب أولوياتهم، فالمصاريف الأساسية مثل الغذاء والتعليم والرعاية الصحية أصبحت تتقدم على تكاليف الزينة أو الهدايا، ما أعاد تعريف معنى الفرح في منازلهم. وبحسب بعض الباحثين الاقتصاديين، فإن الأعياد هذا العام ليست مناسبة للاستهلاك المفرط، بل لحفظ الحد الأدنى من الطقوس الاجتماعية والروحية، ما يحول الاحتفال إلى فعل رمزي أكثر من كونه نشاطًا اقتصاديًا أو سياحيًا.
الجانب الاجتماعي والإنساني
رغم كل هذه التحديات، يظهر في بيت لحم جانب مدهش من الصمود الاجتماعي والإنساني. فالاحتفالات، ولو كانت بسيطة، تُعيد ربط الناس بماضيهم وثقافتهم المشتركة. العائلات التي تزين بيوتها، وتشارك في القداسات، أو تنظم تجمعات رمزية، تؤكد على استمرار الحياة اليومية وقيم التضامن بين الناس.
الأطفال هم الأكثر استفادة من هذه الجهود الرمزية؛ فهم يجدون في الزينة، والشموع، والموسيقى الدينية شعورًا بالأمان والفرح حتى في ظل الظروف الصعبة. كما أن هذه الطقوس تساعد على تقوية الروابط الاجتماعية بين الجيران والمجتمع المحلي، ما يجعل المدينة أكثر تماسكا، حتى في الأزمات.
التاريخ والرمزية
بيت لحم ليست مجرد مدينة فلسطينية، بل رمز عالمي للسلام والميلاد، وهذا يعزز أهمية الحفاظ على الاحتفالات الرمزية حتى في أصعب الظروف. إضاءة الشجرة، وتنظيم قداس محدود، وإبقاء الطقوس الأساسية على قيد الحياة، هي بمثابة رسالة للعالم مفادها أن المدينة ما زالت حية، وأن سكانها قادرون على الصمود والحفاظ على هويتهم الثقافية والدينية رغم كل شيء.
تاريخيًا، مرت بيت لحم بمراحل صعبة، ولكنها دائمًا كانت قادرة على النهوض بعد الأزمات. هذا الموروث يجعل من الاحتفال بالأعياد فعلًا يعكس قوة المدينة وقدرتها على تجاوز المحن، ويذكّر الجميع بأن الحياة في بيت لحم تستمر مهما كانت الظروف صعبة.
إعادة تعريف الفرح
في ظل الظروف الحالية، أصبح الفرح في بيت لحم مفهومًا داخليًا أكثر من كونه ظاهريًا. فالمظاهر التقليدية الكبيرة قد تقلّصت، ولكن الرمزية، سواء في الشجرة، أو الصلوات، أو الأغاني، تجعل من الاحتفال حدثًا مؤثرًا على الصعيد النفسي والاجتماعي. الفرح أصبح مرتبطًا بالقدرة على الصمود والحفاظ على الهوية والثقافة، وليس فقط بالزينة أو الحشود الكبيرة.
إن إعادة تعريف الفرح بهذا الشكل يمنح الناس شعورًا بالاستمرارية، ويظهر للعالم أن المدينة قادرة على الحفاظ على روحها، حتى عندما تتقلّص مظاهرها الخارجية. كما أنه يعكس مرونة المجتمع الفلسطيني، وقدرته على تحويل الأزمات إلى فرص لتعزيز الروابط المجتمعية والتمسك بالقيم الثقافية والدينية.
بيت لحم هذا العام لا تحتفل كما كانت في الماضي، لكنها تحتفل بطريقة أعمق، أكثر رمزية، وأكثر صمودًا. الأعياد، تحت الضغط السياسي والاقتصادي، أصبحت اختبارًا للقدرة على الحفاظ على الهوية والثقافة والمجتمع، ورسالة صامتة للعالم بأن المدينة لن تُسقطها الحروب أو الأزمات.
من خلال التكيف مع الواقع وإعادة تعريف الفرح، تعكس بيت لحم قدرة نادرة على الصمود، وتؤكد أن الاحتفالات، مهما كانت بسيطة، تحمل معنى أكبر من مجرد بهجة موسمية؛ فهي إعلان حياة، وهوية، ورسالة سلام في قلب فلسطين.