الثلاثاء 16 كانون الأول 2025

تقارير وتحقيقات

تونس:حين يصرخ الشارع وتُدير السلطة ظهرها.



وكالة النهار الاخبارية/ بهيجة البعطوط- تونس

لم تعد التظاهرات التي شهدتها عدة مدن تونسية مؤخرًا مجرد تحركات اجتماعية ،بل تظاهرات تعكس أزمة ثقة عميقة بين السلطة ومجتمع يشعر بأن كلفة الإصلاح تُفرض عليه دون أن يكون شريكًا في صياغتها أو في فهم أهدافها وحدودها.
لقد اتّسعت دائرة المحتجين لتشمل قوى حقوقية ومكوّنات من المجتمع المدني ومواطنين من مختلف الفئات الاجتماعية. وهو ما يؤكد أن الاحتجاج لم يعد حكرًا على فئة مهمّشة بعينهابل تحوّل إلى تعبير جامع عن شعور عام بالتهميش السياسي والاجتماعي وعن رفض متزايد لسياسات تُدار من أعلى دون نقاش عمومي حقيقي.
وتأتي هذه التحركات في سياق اقتصادي واجتماعي بالغ الهشاشة  يتزامن مع  تراجع القدرة الشرائية و تدهور واضح في القطاع الصحي حيث يعاني فيه المواطن من نقص الخدمات والتجهيزات مع ارتفاع مقلق في نسب الانقطاع المبكر عن الدراسة ما يطرح أسئلة جدّية حول مستقبل أجيال كاملة تُدفع خارج منظومة التعليم في غياب سياسات إحاطة ناجعة. وهي مؤشرات لا يمكن فصلها عن الخيارات العامة للدولة ولا عن أولوياتها الفعلية.مع تهميش واضح للشباب الذي فقد الأمل في العيش بكرامة وأمان .كما ارتفعت نسبة الشباب المستهلك لمختلف انواع المخدرات ،وزادت نسبة الجريمة. 

ورغم مشروعية المطالب الاجتماعية والحقوقية المرفوعةما يزال التعاطي الرسمي معها محدود الأثر ويغلب عليه الطابع الظرفي وردّ الفعل أو يُختزل في مقاربة أمنية وخطاب تبريري عام. وهو تعاطٍ لا يساهم في التهدئة بل يعمّق الإحساس بالتجاهل مما يزيد في غضب الشارع. 

إن الإشكال لا يكمن فقط في عمق الأزمة الاقتصادية بل في غياب التواصل السياسي الصريح مع الرأي العام. فالمواطن التونسي رغم صعوبة واقعه يبقى مستعدًا للتحمّل متى شعر بالصدق والشفافية وبأن الأعباء موزّعة بعدالة وأن القرارات نابعة من رؤية وطنية تشاركية تُشرك المجتمع المدني والقوى الحقوقية بدل تهميشها.

وفي المقابل لا يمكن إغفال أن بعض التحركات قد تنزلق أحيانًا نحو تعطيل المرافق العامة أو غلق الطرقات وهو ما يُربك الحياة اليومية ويُضعف التعاطف الشعبي. غير أن معالجة هذه الانزلاقات لا تكون بتجريم الاحتجاج أو شيطنته بل بإعادة الاعتبار للحوار السياسي المنعدم  والاستماع الجدي للمطالب ومعالجة جذور الأزمة بدل الاكتفاء بإدارة نتائجها.
إن ما يجري في الشارع التونسي اليوم ليس مجرّد احتجاج على غلاء الأسعار أو تدهور الخدمات بل هو تعبير صريح عن أزمة حكم قبل أن يكون أزمة موارد. أزمة عنوانها غياب الشراكةوضعف الإصغاء  وتآكل الثقة بين الدولة ومجتمع يشعر بأن صوته لا يُسمع إلا حين يخرج إلى الشارع.

فالسلطة التي لا ترى في التظاهر إلا تهديدًا أمنيًا تخطئ في قراءة الواقع لأن الاحتجاج في جوهره فعل سياسي سلمي ورسالة إنذار مبكر بأن السياسات المتّبعة بلغت حدودها. وتجاهل هذه الرسالة أو التقليل من شأنها لا يؤدي إلى الاستقرار بل يؤسس لانفجارات اجتماعية أشدّ كلفة وأقلّ قابلية للاحتواء.
لقد أثبتت التجارب أن غلق المجال العام لا يطفئ الغضب بل يدفعه إلى التراكم في صمت خطير. وأن الإصلاح الذي لا يُقنع المجتمع ولا يحمي حقه في الصحة والتعليم والكرامة يبقى إصلاحًا هشًا مهما كانت شعاراته.وغياب العدالة بعد أن أصبح القضاء مجرد وظيفة،واصبحت الأحكام تصدر من القصر لتصفية المعارضين لم يعد المواطن يشعر بالأمان والاستقرار. 

اليوم لا يطالب الشارع بالمستحيل بل بالحدّ الأدنى من العدالة والوضوح والمشاركة. والسؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح لم يعد: كيف نُسكت الاحتجاج؟ بل هل تملك السلطة الإرادة السياسية للاعتراف بأن إدارة الأزمة دون تغيير حقيقي في المنهج لم تعد خيارًا قابلًا للاستمار؟

إن لحظة الحقيقة تقترب والرهان لم يعد أمنيًا ولا تقنيًاةبل سياسيا بامتياز إمّا استعادة الثقة عبر سياسات عادلة وحوار صادق أو ترك الهوة تتّسع بين الدولة ومجتمع لم يعد يحتمل مزيدًا من الوعود المؤجّلة.