السبت 27 أيلول 2025

محمد الأسعد... السفير الذي يعود إلى بيروت محمّلاً بذاكرة الغياب وامتحان الحاضر

كتب عصام الحلبي
في بيروت التي يختلط فيها صوت البحر بضجيج المخيمات، يعود محمد قاسم الأسعد، ابن العام 1958، إلى المدينة التي غادرها صغيراً، لا بصفته لاجئاً هذه المرة، بل بصفته سفيراً يحمل علم فلسطين ويواجه امتحاناً أثقل من الذاكرة. وُلد الأسعد في مدينة مثقلة بالحكايات الفلسطينية، حيث اللاجئون ينامون على حلم العودة ويستيقظون على قيود القوانين. ومن هذه البيئة خرج باكراً نحو موسكو، وهناك نسج فصول سيرته الأكاديمية والدبلوماسية.
في موسكو، وعلى مقاعد جامعة "الصداقة بين الشعوب"، درس الهندسة، ثم حمل شغف البحث حتى نال الدكتوراه في العلوم التقنية، غير أنّ طريقه لم يؤدِّ به إلى ورشات البناء والإعمار...، بل إلى فضاء أوسع ،بناء الجسور بين فلسطين والعالم، بالكلمة والمعرفة والدبلوماسية.
بين موسكو وكييف، عايش انهيار إمبراطوريات وصعود أخرى، وتعلم كيف تُصاغ الخطابات المتوازنة وسط زلازل السياسة. وفي نواكشوط، مارس دبلوماسية من نوع مختلف، حيث التضامن الصافي مع فلسطين يسبق الحسابات الباردة. هناك، كان السفير الذي يقف بين الناس بلا بروتوكول معقد، سفيراً يتنفس بساطة الأطراف لا بهرجة العواصم الكبرى.

في بيروت، لا يُقاس حضور السفير بعدد اللقاءات ولا بمراسم الاستقبال، بل بقدرته على ملامسة الجرح المفتوح في المخيمات، حيث يختلط الفقر بالبطالة، واليأس بانتظار العودة، يحتاج  السفيرمحمد الأسعد إلى جهد مضاعف ليكون صوتاً للناس قبل أن يكون ممثلاً لبروتوكول، وقد خبرته المراكز التي عمل فيها سفيراً ودبلوماسياً باجتهاده ومثابرته، إذ كان حيثما حلّ عنواناً للعمل الجاد والنجاح المتراكم. وفوق ذلك، ظل فدائياً عنيداً، مدافعاً عن حق شعبه، مؤمناً أن الدبلوماسية ليست بديلاً عن الانتماء، بل امتدادٌ له في لغة العالم وأروقة السياسة.

ينتمي الأسعد إلى جيل مختلف من الدبلوماسيين الفلسطينيين ،هادئ الطبع، لا ينجرف وراء الانفعال، يفضّل التفاصيل الدقيقة على الشعارات الكبيرة، ويؤمن أن المتابعة اليومية المثابرة تصنع الفارق أكثر من الخطابات العالية.
وعندما تجلس معه، تلمس الطيبة والود في حديثه، وتكتشف شخصية قريبة من القلب، مثقفة وذكية، تُصغي بقدر ما تتكلم، وتتابع التفاصيل بروح المثابر الذي لا يترك خيطاً دون أن يعقده.

اليوم، يضع السفير محمد الأسعد أوراق اعتماده في قصر بعبدا، لكنه يعرف أن الامتحان الحقيقي لن يكون هناك، بل في الأزقة الضيقة لعين الحلوة والرشيدية وبرج البراجنة،.... فهناك يُقاس نجاح السفير، وهناك تتحدد قيمة رسالته.
فبيروت ليست كييف، ولبنان ليس نواكشوط. هنا، السياسة متشابكة مع الخبز، والأمن يتقاطع مع مياه البحر المالحة التي تغمر المخيمات شتاءً. وهنا أيضاً، يعود الأسعد لاجئاً سابقاً يعرف معنى الغربة، ليجعل من الدبلوماسية مرآة لذاكرة المخيمات وصوتاً لكرامة أبنائها.
 السفير محمد الأسعد ليس مجرد سفير، بل حكاية عودة إلى مدينة غادرها شابا صغيرا وعاد إليها رجلاً يحمل كل ما تعلمه في الغربة. وبين أوراق اعتماده الرسمية، يخفي أوراقاً أخرى، ذاكرة اللجوء، وإصرار اللاجئ على أن يظل شاهداً، ورغبة الدبلوماسي ـ الفدائي ـ في أن يكون صدى فلسطين في بيروت وصوت بيروت في فلسطين.