عصام الحلبي – بيروت
تشهد السلطة الوطنية الفلسطينية أزمة مالية غير مسبوقة تهدد استمرار مؤسساتها وقدرتها على أداء وظائفها الأساسية. هذه الأزمة، وإن كانت في ظاهرها اقتصادية، إلا أنها في جوهرها أداة ضغط سياسي تستعملها إسرائيل، بدعم أميركي واضح، وتغاضٍ أوروبي مريب، بهدف إخضاع الفلسطينيين وتفريغ مشروعهم الوطني من مضمونه.
فمنذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، الذي كان من المفترض أن يكون نقطة انطلاق نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وحل عادل لقضية اللاجئين وفق قرارات الشرعية الدولية، تتعرض هذه الرؤية لتقويض ممنهج، لم تقتصر مظاهره على الاستيطان وتكريس الاحتلال، بل امتدت إلى الخنق المالي المبرمج للسلطة، ما يضع مستقبلها ومصير الشعب الفلسطيني على المحك.
من أوسلو إلى الحصار المالي
نص اتفاق أوسلو، في أحد أهم بنوده، على أن السلطة الفلسطينية تمثل كيانًا انتقاليًا نحو تحقيق الاستقلال والسيادة. لكن بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود، لم تطبق إسرائيل سوى ما يخدم مصالحها الأمنية، فيما تم تجميد المسار السياسي، بل وتراجعت السلطة إلى دور إداري هش تحت الاحتلال.
الوجه الأبرز لهذا التراجع يتجلى اليوم في الضغط المالي، حيث تُستخدم اتفاقية باريس الاقتصادية، الموقعة عام 1994، كأداة لخنق الفلسطينيين اقتصاديًا، إذ تُبقي إسرائيل يدها على معظم مفاصل الاقتصاد الفلسطيني، وتتحكم بتحصيل وإعادة أموال المقاصة، وهي الضرائب التي تجبيها نيابة عن السلطة.
اتفاقية باريس: قيد بغطاء اقتصادي
رغم مرور ثلاثة عقود، لم تُعدّل اتفاقية باريس، بل باتت تُستخدم كآلية عقاب جماعي. فإسرائيل تقطع بشكل متكرر من أموال المقاصة بحجج واهية، كدفع السلطة رواتب الأسرى وذوي الشهداء، أو بسبب "التحريض" الإعلامي، ما أدى إلى أزمات مالية متكررة، تؤثر على رواتب الموظفين والخدمات العامة.
هذه السياسة لا تأتي بمعزل عن السياق السياسي، بل تُعتبر جزءًا من خطة إسرائيلية تهدف إلى إضعاف السلطة وتقويض قدرتها على الاستمرار، تمهيدًا لفرض حلول أحادية تُجهز على مشروع الدولة.
أموال المقاصة: من حق مشروع إلى وسيلة ابتزاز
أموال المقاصة، التي تمثل نحو 60% من موازنة السلطة، تحوّلت إلى أداة ابتزاز سياسي، تُستخدم لفرض شروط على الفلسطينيين، تارةً بمنع دعم أسر الشهداء، وطورًا بفرض تغييرات في المناهج أو الأداء الأمني. وتجد إسرائيل في هذا المسار دعمًا غير مشروط من الولايات المتحدة، التي تكتفي بالتصريحات الرمزية دون اتخاذ إجراءات حقيقية، في حين يبدو الموقف الأوروبي باهتًا، إذ تتراجع المساعدات تحت عناوين تقنية، لكنها تخفي خلفها خضوعًا للضغوط السياسية.
الاحتلال على الأرض: استيطان واقتحامات وهدم ممنهج
إلى جانب الحصار المالي، تصعد إسرائيل ممارساتها الميدانية اليومية التي تعمق من الأزمة وتستهدف كسر إرادة الشعب الفلسطيني. ففي الضفة الغربية والقدس، تواصل سلطات الاحتلال تشجيع ودعم الاستيطان بشكل محموم، بما يشمل مصادرة الأراضي، وبناء آلاف الوحدات الاستيطانية الجديدة.
كما تعتمد إسرائيل سياسة هدم البيوت، خاصة في القدس ومناطق "ج"، لدفع السكان الفلسطينيين نحو الرحيل القسري. وتُنفذ قوات الاحتلال اقتحامات عسكرية متكررة للمدن والمخيمات الفلسطينية، يتخللها اعتقال مواطنين، بينهم أطفال ونساء وطلبة جامعات، ما يضاعف من التوتر الأمني والأعباء التي تتحملها السلطة، في ظل غياب
أفق سياسي وانغلاق في كل المسارات.
استجابة ضعيفة رغم تحرك دبلوماسي فلسطيني نشط
في مواجهة هذا الواقع، تقوم السلطة الفلسطينية بحركة دبلوماسية نشطة عربيًا ودوليًا، في محاولة لحشد الدعم وتفعيل شبكة الأمان المالية، والضغط على إسرائيل للإفراج عن الأموال المحتجزة.
لكن حتى الآن، الاستجابة لهذه التحركات ضعيفة جدًا، في ظل الهيمنة الأميركية على القرار الدولي، وابتزاز إسرائيل للدول والمنظمات التي تحاول دعم السلطة. لا تزال معظم العواصم الكبرى تقدم بيانات دعم لفظية، دون أي ترجمة فعلية تردع إسرائيل أو تضمن الحد الأدنى من الالتزام باتفاقيات موقعة.
شبكة أمان غائبة وأعباء متفاقمة
رغم الحديث عن "شبكة أمان مالية عربية"، إلا أن ما تم تقديمه فعليًا للسلطة محدود جدًا، ولم يرقَ إلى مستوى إنقاذي. وفي الوقت نفسه، تتفاقم الأعباء الملقاة على كاهل السلطة، فهي مسؤولة عن دفع رواتب أكثر من 170 ألف موظف، وتقديم خدمات الصحة والتعليم والأمن، دون سيادة فعلية على الأرض أو قدرة حقيقية على تطوير مواردها.
وتسير السلطة على خيط رفيع بين الاستمرار والانهيار، في وقت تتصاعد فيه التوترات الأمنية في الضفة الغربية، وتتصاعد أيضًا وتيرة الاقتحامات الإسرائيلية، ما يزيد الضغط على الأجهزة الأمنية الفلسطينية ويستهلك طاقاتها وموازناتها.
الحلول الممكنة: كسر التبعية وتفعيل المواجهة القانونية والدولية
أمام تعقيد المشهد، لا يبدو أن الحلول الاقتصادية وحدها كافية، ما لم تترافق مع رؤية سياسية جديدة تعيد الاعتبار لمشروع الدولة والكرامة الوطنية. ومن أبرز الخطوات الممكنة:
1. التحرك دوليًا لفضح الابتزاز المالي الإسرائيلي عبر الأمم المتحدة والمحاكم الدولية، ورفع دعاوى بشأن الأموال المحتجزة.
2. المطالبة الجدية بتعديل اتفاقية باريس الاقتصادية أو الانسحاب منها إن لزم، فهي باتت أداة خنق لا تعاون.
3. تعزيز الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على السوق الإسرائيلية، وإنشاء صندوق وطني للطوارئ.
4. الضغط العربي الحقيقي لتفعيل شبكة الأمان المالية، بعيدًا عن الشعارات.
5. تعزيز الشفافية المالية والإصلاح الإداري داخل مؤسسات السلطة لاستعادة الثقة الشعبية والدولية.
6. استثمار التحرك الدبلوماسي في تحشيد رأي عام عالمي يربط بين معاناة الفلسطينيين واستمرار الاحتلال والتمييز المالي.
7. تسليط الضوء على انتهاكات الاحتلال اليومية، وربطها بالأزمة المالية والمؤسساتية التي تمر بها السلطة.
المال كسلاح سياسي... والصمود كمشروع تحرر
إن الأزمة المالية الراهنة ليست ظرفًا طارئًا، بل أداة ضغط محسوبة، تُستخدم لتصفية المشروع الوطني الفلسطيني. فبين سياسة العقوبات الإسرائيلية، والصمت الدولي، وتراجع الدعم العربي، تواجه السلطة تحديًا وجوديًا.
لكن التراجع ليس قدرًا، والمواجهة القانونية والدبلوماسية والاقتصادية ما زالت ممكنة، شريطة ، وتوحيد الصف الوطني، وبناء اقتصاد مقاوم، يضع الكرامة الوطنية والاستقلال الحقيقي في قلب المعادلة.