الثلاثاء 16 كانون الأول 2025

الدبلوماسية التي أقلقت الاحتلال: منى أبو عمارة ودور فلسطين الهادئ في إيطاليا



 بقلم : عصام الحلبي

في المشهد السياسي الدولي، حيث تُدار الصراعات اليوم بلغة النفوذ وبناء السرديات أكثر مما تُدار بلغة السلاح، تبرز الدبلوماسية الفلسطينية الهادئة كأحد أهم ميادين الاشتباك مع الرواية الإسرائيلية. وفي هذا السياق، يبرز الدور الذي تؤديه السفيرة منى أبو عمارة في إيطاليا بوصفه نموذجًا لدبلوماسية واعية، رصينة، بعيدة عن الاستعراض، لكنها عميقة الأثر، استطاعت أن تعيد للقضية الفلسطينية حضورها السياسي والإنساني في واحدة من أهم العواصم الأوروبية.

منذ توليها مهامها في روما، عملت أبو عمارة على شدّ أواصر العلاقة الفلسطينية–الإيطالية على أسس متينة تقوم على التواصل الدائم، والانفتاح على مختلف المستويات السياسية والثقافية والأكاديمية، وتعميق فهم المجتمع الإيطالي للواقع الفلسطيني بعيدًا عن الروايات الأحادية والمقولات الجاهزة. هذا الجهد التراكمي لم يكن وليد لحظة عاطفية أو ظرف سياسي عابر، بل جاء نتيجة قراءة دقيقة للتحولات التي يشهدها الرأي العام الإيطالي، واستثمار واعٍ لمساحات التعاطف المتزايدة مع الشعب الفلسطيني، لا سيما في ظل ما خلّفته الاعتداءات المتواصلة وحرب الإبادة على غزة من صدمة أخلاقية داخل الأوساط الأوروبية.

وقد تجلّى هذا المسار الدبلوماسي بوضوح في الزيارة الرسمية التي قام بها فخامة الرئيس محمود عباس إلى إيطاليا، والتي شكّلت محطة سياسية مهمة، عكست مستوى متقدمًا من الثقة والاحترام المتبادل بين الجانبين. جاءت هذه الزيارة تتويجًا لعمل دبلوماسي صامت قادته السفارة الفلسطينية، وأسفرت عن مخرجات ولقاءات أكدت أن العلاقة بين روما ورام الله لم تعد شكلية أو بروتوكولية، بل باتت علاقة سياسية ناضجة، قادرة على إنتاج مواقف أكثر توازنًا، وانفتاحًا على الحقوق الوطنية الفلسطينية.

نجاح هذه الزيارة وما حملته من رسائل سياسية وإنسانية واضحة لم يكن موضع ارتياح لدى أعداء القضية الفلسطينية، وفي مقدمتهم الاحتلال الإسرائيلي، الذي اعتاد العمل على عزل القيادة الفلسطينية ومحاصرتها دبلوماسيًا وتشويه حضورها الدولي. وقد عكست حملات التحريض الإعلامي التي استهدفت السفيرة أبو عمارة حجم القلق من فعالية هذا الحضور الفلسطيني المتنامي في أوروبا، ومن قدرة الدبلوماسية الفلسطينية على اختراق الساحات التي طالما سعت إسرائيل إلى احتكارها سرديًا وسياسيًا.

إن الانزعاج الإسرائيلي من هذا التقارب لا يمكن فصله عن إدراك متزايد بأن المعركة على الشرعية الدولية لم تعد تُحسم فقط عبر موازين القوة العسكرية، بل عبر كسب الرأي العام، وبناء شبكة علاقات سياسية وثقافية وإنسانية واسعة. وهو المجال الذي نجحت فيه أبو عمارة بامتياز، إذ قدّمت فلسطين لا بوصفها قضية نزاع سياسي مجرد، بل كقضية عدالة وحقوق إنسان، تتقاطع مع القيم التي يحرص المجتمع الأوروبي على تبنيها والدفاع عنها.

من هذا المنطلق، فإن ما حققته السفيرة منى أبو عمارة في إيطاليا لا يمكن اختزاله في إنجاز دبلوماسي ظرفي، بل يشكّل مسارًا تراكميًا يعيد لفلسطين مكانتها الطبيعية على الساحة الأوروبية، ويؤكد أن الحضور الفلسطيني الفاعل لا يزال ممكنًا رغم كل محاولات التهميش والتشويه. وهو مسار يستحق التقدير والدعم، لما يحمله من أبعاد سياسية ومعنوية تعزز صمود الرواية الفلسطينية في مواجهة الاحتلال وأدواته.

وفي ختام هذا المشهد، يبرز السؤال المشروع: من هي منى أبو عمارة؟ هي دبلوماسية فلسطينية من القدس الشرقية، تنتمي إلى جيل جديد من الكفاءات الوطنية التي اختارت العمل الهادئ والعميق في ساحات التأثير الدولي. شغلت سابقًا منصب ممثلة دولة فلسطين في كندا، حيث راكمت خبرة واسعة في مخاطبة الرأي العام الغربي والنخب السياسية والأكاديمية، قبل أن تُكلَّف بتمثيل فلسطين سفيرةً لدى الجمهورية الإيطالية. وفي مسيرتها، قدّمت نموذجًا لدبلوماسية حديثة تقوم على بناء العلاقات، وترسيخ الرواية الفلسطينية، وتحويل الحضور السياسي إلى قوة ناعمة فاعلة في خدمة القضية الفلسطينية، وهو دور يبعث على الفخر والاعتزاز لدى كل فلسطيني.